أثار اللقاء الذي جمع وزير الخارجية السوري
الجديد أسعد الشيباني بوزير الشؤون الاستراتيجية الصهيوني رون ديرمر في باريس،
والذي اعتبره البعض امتداداً للقاء سابق جمع وزير الخارجية السوري فاروق الشرع مع
رئيس الوزراء
الإسرائيلي إيهود باراك عام 2000، جدلاً واسعاً على المستويين العربي
والإسلامي حول الدولة الناشئة ومدى تمسكها بالمبادئ والسيادة وقيم الكرامة
والاستقلال الوطني، فاللقاء الصدمة لم يكن مجرّد خبر عابر في زحمة الأحداث، بل
خطوة خطيرة تتجاوز في دلالاتها اللحظة الآنيّة، إلى مستقبل
سوريا بعد الثورة،
وموقعها في الصراع العربي الإسلامي مع الكيان الصهيوني.
اللقاء، حتى لو جرى في سياق "رسمي،
دبلوماسي" أو تحت عنوان "استكشاف" أو في إطار "التهدئة
الآنيّة" كما يبرّر البعض، يبقى فعلاً سياسياً ذا حمولة رمزية ثقيلة، فهو
يأتي في لحظة تاريخية يقتل فيها العدوّ الصهيوني ويدمّر ويشرّد، تحت وطأة القصف
والضربات الإسرائيلية والانتهاكات الخطيرة بحقّ شعوب المنطقة، خاصة في فلسطين
ولبنان وسوريا، فضلاً عن أنّ الموقف من الكيان الصهيوني ليس خياراً سياسياً
عادياً، ولا مجرد أداة تكتيكية تستخدمها الدول وفق موازين مصالحها، بل هو قضية
مبدئية وعقدية ترتبط بالاحتلال المستمرّ لفلسطين وبالدماء التي سالت دفاعاً عن
القدس والمقدسات. ومن ثمّ، فإنّ أيّ خطوة في هذا الاتجاه ستُفهم باعتبارها إقراراً
بالاحتلال أو تمهيداً للتطبيع، وفي ذلك مسّ بالثوابت يتناقض وتطلّعات الشعوب التي
ثارت طلباً للحرية والكرامة.
بين السياسة الشرعية والواقعية السياسية
تقرّ السياسة الشرعية مرونة الوسائل وتنوّع
الأساليب، وتسمح للحاكم بالمناورة وتقدير المصالح والمفاسد، لكنّها لا تبيح مطلقاً
التنازل عن الحقّ أو تبرير الباطل. وقد أشار الإمام محمد الطاهر بن عاشور في
"مقاصد الشريعة" إلى أنّ "المصلحة الحقيقية هي التي تحفظ مقوّمات
الأمّة، لا التي تذيبها أو تنقض أصولها". ومن هنا كان التوازن مطلوباً، حيث
الواقعية السياسية لا تكون على حساب الثوابت والأصول، ومصالح الدولة الآنية لا
تقدّم على مصالح الأمّة المستمرّة المستدامة، فليس كلّ ما هو ممكن سياسياً مقبولاً
شرعاً، ولا كلّ ما هو ضروري مرحلياً يبرّر التضحية بالثوابت. ومن الحكمة أن ندرك
أنّ المرونة شيء، والتفريط شيء آخر!
لقد أثبتت تجارب عقود ماضية أنّ الانقياد للعدوّ لا يجرّ إلا المزيد من الخذلان، وما أكثر أن ساهمت اللقاءات بالعدوّ، تحت شعارات تحقيق المصالح وكفّ العدوان، بالمزيد من التبعيّة والارتهان! وكانت محطّات استفاد منها العدوّ في كسر حواجز الصراع، وتمييع ثوابت المقاطعة، وتعزيز ملامح التطبيع، وتجاوز مبدئية المعركة التي هي "معركة وجود وحضارة لا معركة حدود ومرحلة" كما يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى، فلا يصحّ اختزالها لاعتبارات تكتيكية أو سياسة عابرة.
لقد أثبتت تجارب عقود ماضية أنّ الانقياد
للعدوّ لا يجرّ إلا المزيد من الخذلان، وما أكثر أن ساهمت
اللقاءات بالعدوّ، تحت
شعارات تحقيق المصالح وكفّ العدوان، بالمزيد من التبعيّة والارتهان! وكانت محطّات
استفاد منها العدوّ في كسر حواجز الصراع، وتمييع ثوابت المقاطعة، وتعزيز ملامح
التطبيع، وتجاوز مبدئية المعركة التي هي "معركة وجود وحضارة لا معركة حدود
ومرحلة" كما يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى، فلا يصحّ اختزالها
لاعتبارات تكتيكية أو سياسة عابرة.
تحدّيات الواقع السوري
إنّ الشرعية الحقيقية للسلطة الناشئة في
سوريا لا تستمدّ من الانتصار الثوري ولا اعتراف المجتمع الدولي، بل من التزامها
بقضايا الأمّة الكبرى، وفي مقدّمتها فلسطين. وكلّ سلوك يتجاهل هذه الحقيقة يعرّض
الدولة الناشئة لفقدان الرصيد الشعبي الذي قامت عليه الثورة أصلاً.
الواقع السوري اليوم معقّد إلى حد بعيد:
دولة بُناها التحتية مدمّرة، نظام سياسي منهك، وصايات خارجية متعدّدة، وتنافس
محموم بين القوى الكبرى لرسم ملامح مستقبل هذا البلد. لكنّ هذه التحدّيات، مهما
كانت ضاغطة، لا ينبغي أن تتحوّل إلى ذريعة لرهن القرار الوطني أو فتح ثغرات
يستغلها العدوّ الصهيوني لاختراق الصف السوري. بل المطلوب من القيادة السورية أن
تبتكر مسارات سياسية، وتبتدع مواقف جديدة تحفظ استقلالها الوطني، وتفتح قنوات مع
عمقها العربي والإسلامي، دون أن تقع في فخاخ التطبيع والارتهان.
خطورة التطبيع
الخطورة الكبرى أن يصبح هذا اللقاء مدخلاً
لتنفيذ أجندات غربية غريبة، تهدف إلى تسويد "إسرائيل" وجعل القرب منها
صمام أمان المنطقة وحكوماتها، خدمة للمشروع الصهيوني، و"إسرائيل الكبرى"
على حساب شلال الدم ومئات آلاف الشهداء، الأمر الذي سيعزل سوريا الجديدة عن محيطها
الطبيعي، ويشوّه صورتها أمام الشعوب. فما من شعب عربي أو إسلامي يرى في التطبيع
خياراً مشروعاً أو مقبولاً، مهما كانت المبررات. ومن ثمّ فإن أيّ اقتراب من الكيان
الصهيوني يعني خسارة الحاضنة الشعبية، وفتح الباب أمام القوى الكبرى لفرض إملاءاتها
وشروطها.
إنّ واجب العلماء والمفكرين والنخب القيام
بدورهم في تأصيل الموقف وضبط البوصلة، سدّاً للذرائع وتسديداً للمسار، بعيداً عن
التبرير أو التخوين، بل التزاماً بخطاب أصولي رشيد، يوازن بين بيان الحقّ والتحذير
من الانحراف، وبين تفهّم تعقيدات الواقع وعدم السماح بأن تُتّخذ هذه التعقيدات
جسراً لتجاوز الثوابت، فالقضية الفلسطينية وحقوق أهلها لم تكن يوماً ورقة سياسية
في صراع محلي أو إقليمي، بل هي قضية الأمّة كلّها، وجوهر الصراع بين مشروع
استعماري استيطاني ومشروع تحرّري إسلامي إنساني.
سوريا الجديدة والدور المطلوب
ومن هنا، فإنّ سوريا الجديدة لا يمكن أن تجد
لنفسها مكاناً مشرّفاً بين الأمم والشعوب إلا بالتمسك بهذا الخطّ، وإلا خسرت
هويّتها ودورها الاستراتيجي. وإنّ ثورة اندلعت طلباً للكرامة لا يصحّ أن تنتهي إلى
الرضوخ لإملاءات قد تؤدّي إلى مقايضة المبادئ بالوعود أو المساعدات. وما فخ أوسلو
الذي تضمّن وعوداً بالاستقرار الأمني والانفتاح الاقتصادي والرفاه المعيشي مقابل
إلقاء السلاح عنّا ببعيد! وإنّ أكثر ما تحتاجه القيادة السورية الجديدة اليوم هو
التمسّك بثوابتها وتأكيد ثقة الأمّة بها، عبر مواقف صلبة تؤكّد أنّ الثورة التي
قدّمت الشهداء لم تُخلق إلا لتبني كرامة شعب أبيّ حرّ، وأنّ أي تواصل مع الكيان
الصهيوني يظلّ مرفوضاً شرعاً وأخلاقاً وسياسة.