كتاب عربي 21

قرن الإذلال.. العرب والاستعمار والصهيونية

حسن أبو هنية
إذا استمر المسار الحالي من "الإذلال" للشعوب العربية، فلن تشهد المنطقة العربية سلامًا واستقرارًا، بل صعودا مؤكدا للجهادية العالمية والمحلية وحركات المقاومة..
إذا استمر المسار الحالي من "الإذلال" للشعوب العربية، فلن تشهد المنطقة العربية سلامًا واستقرارًا، بل صعودا مؤكدا للجهادية العالمية والمحلية وحركات المقاومة..
يعد الإذلال أحد المداخل الأساسية في فهم محركات العلاقات الدولية ودوافع وسلوك الفاعلين، وقد تعرض العالم العربي إلى ثلاث موجات كبرى من الإذلال خلال قرن من الزمن، أسفرت عن عملية إخضاع شاملة للدول العربية تمتاز بالانحدار السياسي والأخلاقي أفضت إلى تشكل أنظمة ونخب فاشلة بمزيج متفجر من الاستبداد والفساد، وأدت إلى ظهور قوى وحركات وفاعلين من غير الدول للرد على الإهانة والإذلال، وجسدت فلسطين جوهر الإذلال الاستعماري والصهيوني للعرب والمسلمين، وقادت إلى ظهور جماعات جهادية  إسلامية عالمية وحركات مقاومة فلسطينية  في محاولة لكسر دائرة الذل والإهانة التي فرضتها القوى المتحالفة من الاستعمارية  الأمريكية الجديدة التي ورثت الاستعمار  الأوروبي القديم، والحركة الصهيونية التي أنشأت الدولة الاستعمارية الإسرائيلية، وجاء هجوم "حماس" المذهل على معسكرات ومستوطنات غلاف غزة  في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، لا ستعادة الكرامة والتحرر من الإذلال،  وكان تنظيم "القاعدة"  قد شن هجوم الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، على نيويورك وواشنطن للرد على الإذلال والامتهان، وسرعان ما برزت مشاعر الإذلال المضاعف عقب الهجومين في الولايات المتحدة والمستعمرة الصهيونية.

إن الإذلال المضاعف ينتج عندما تتعرض قوة متغطرسة  متلبسة بالفوقية والتفوق الحضاري مدججة بالسلاح موهومة بالحصانة والردع  للإهانة من قوة  ضعيفة وموصوفة بالدونية والتخلف والبربرية، وقد جاء التماهي الإسرائيلي مع أمريكا  في رد الإهانة بصورة متطابقة مع التقييم الذي أدلى به فرانك سامرز، أستاذ الطب النفسي في جامعة نورث وسترن الأمريكية بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول: "لقد شعرت البلاد بضعف ربما لم يسبق له مثيل. إن قدرة خصم ذي موارد بدائية على اختراق حدود أمة لطالما اعتبرت نفسها منيعة كانت بمثابة جرح مُهين، بالإضافة إلى خسارة فادحة في الأرواح والموارد الوطنية"، وكان رد فعل الرئيس جورج دبليو بوش الانفعالي على الإذلال الذي ألحقه تنظيم القاعدة بأمريكا هو الانتقام.

تعرض العرب إلى قرن من الإذلال يفوق ما تعرضت له الصين، ومع ذلك لا يتداول العرب مصطلح "قرن الإذلال"، رغم الهزائم الانكسار والتقسيم والهوان والذل، بل إن الدولة العربية ونخبها المثقفة تعيش حالة من العشق والحنين مع الحقية الإمبريالية الاستعمارية وتتغذى على متلازمة مازوخية مع اكسسوارات حداثة مزيفة، وتشير موجات الإذلال العربي إلى مسار انحدارالعالم العربي إلى الدخول في أفق من الإذلال أشد من سابقه مع تنامي موجات الإذلال المتتالية، فمنذ نهاية الحرب الباردة، تغلغلت موجة ثالثة من الجغرافيا السياسية للعالم العربي.
وكما قال لبوب وودوارد ، فقد أثار الهجوم غضبه ـ لدرجة أنه شرع في غزو العراق، وجاء ردّ بنيامين نتنياهو على هجوم حماس بنفس القدر من الغضب والغطرسة وشرع بمحاولة تغيير الشرق الأوسط والهجوم على إيران ولبنان وسوريا، وكما حدث مع الولايات المتحدة بعد شن حرب بلا نهاية من أفغانستان إلى العراق ومطاردة ما سمي "الإرهاب" في العالم، أفضت الغطرسة إلى فشل ذريع أدى إلى تنامي وانتشار الحركات الجهادية بدل تقويضها، وفي حرب بلا نهاية أصر نتنياهو  كما حدث مع الرئيس بوش والأمريكيين بعد أحداث 11 سبتمبر، أطلق العنان للجيش الإسرائيلي بشن حرب إبادة على غزة وأهلها، متعهداً بعدم التوقف حتى تحقيق "النصر الكامل"، دون توضيح ما يعنيه ذلك بالضبط، وما سيحدث في اليوم التالي. وكما وجدت أمريكا نفسها في حرب خاسرة بلا نهاية، فإن إسرائيل الآن متورطة في معركة دامية وطويلة الأمد في غزة والمنطقة دون أفق.

لا يقتصر معنى الإذلال في العلاقات الدولية على الإحراج؛ فهو يرقى إلى مستوى  من التدهور العام لقوة دولة فاعلة أخرى وحرمانها من مكانتها، وترسيخ تسلسل هرمي واضح من الخضوع ، وتوفر الحروب فرصة الإذلال بطرق صارخة وفجة، فالهزيمة في ساحة المعركة لا تجلب السخرية والاستهزاء فحسب، بل تنطوي على خسائر واضحة وخاصة في الأراضي والأرواح، وقد تناول كتاب المفكر الفرنسي برتران بديع  تحت عنوان "زمن المذلولين: باثولوجيا العلاقات الدولية"، تشخيصا للاختلال الحاصل في علاقات الدول، ويردّه إلى تمرّس القوى الغربية في إذلال دول العالم الثالث التي تحاول مجتمعاتها العمل على إعادة توازن القوى، وإنشاء نظام دولي جديد قائم على المساواة والعدالة. وتعرض الكاتبة والمؤرخة الألمانية أوتا فريفرت في كتابها "سياسة الإذلال: مجالات القوة والعجز"، جوانب عديدة للعار الذي يلحق بالأفراد وبالدول، العار الذي تصنعهُ سياسات خاصّة، ومن ثمّ تستثمرهُ في إخضاع الآخرين، وهو ما يضع الكرامة الإنسانية وكرامة الأوطان في صدارة الفعل السياسي والمقاومة لسياسات الإذلال.

تبدأ الأمم والشعوب مسار النهضة والتقدم في التاريخ بعد إدراك معادلة الإذلال/ الكرامة، فقد  شكّل مفهوم "قرن الإهانة الصيني" (1839ـ 1949) في الوعي السياسي الصيني، حجر الأساس في بناء سردية قومية تقوم على اعتبارات الهوية والتاريخ والثقافة، إذ يشير قرن الإذلال في الوعي الصيني إلى مرحلة طويلة من التفكّك والاحتلال الأجنبي والتشتت الوطني، بدأ بحرب الأفيون الأولى عام 1839، حين اضطرت الصين لفتح موانئها بالقوّة والتنازل عن أراضيها، وخضوعها لنفوذ القوى الاستعمارية الأوروبية، ثم انهارت السلطة المركزية إثر انتفاضات داخلية وحروب مع اليابان والدول الغربية، وانتهى قرن "الإهانة" بقيام جمهورية الصين الشعبية عام 1949، التي حملت وعداً بإنهاء الإذلال واستعادة  الكرامة بما أسمته "النهضة الصينية القومية"، واستخدم مفهوم، "قرن الإذلال"، كدافع  ومحرك لإنجاز النهضة والاستقلال في الصين، من خلال مشروع قومي يربط بين الإذلال التاريخي وبين "استعادة المجد"، وقد نجحت الصين من خلال إدراك  ومفهمة أبعاد قرن الإذلال  في توحيد الهوية القومية الصينية، وتغذية طموحات الشعب بمشاريع تنموية وسياسية، بدأها ماو تسي تونغ عام 1949 وتطورت في عهد دينغ شياو بينغ، (1978-1990) ووصولاً إلى المشروع الطموح للرئيس الحالي شي جين بينغ المسمّى بـ"الحلم الصيني".

تعرض العرب إلى قرن من الإذلال يفوق ما تعرضت له الصين، ومع ذلك لا يتداول العرب مصطلح "قرن الإذلال"، رغم  الهزائم  الانكسار والتقسيم والهوان والذل، بل إن الدولة العربية ونخبها المثقفة تعيش حالة من العشق والحنين مع الحقية الإمبريالية الاستعمارية وتتغذى على متلازمة مازوخية مع اكسسوارات حداثة مزيفة، وتشير موجات الإذلال العربي إلى مسار انحدارالعالم العربي إلى الدخول في أفق من الإذلال أشد من سابقه مع تنامي موجات الإذلال المتتالية، فمنذ نهاية الحرب الباردة، تغلغلت موجة ثالثة من الجغرافيا السياسية للعالم العربي.

بدأت الموجة الأولى بانهيار الإمبراطورية العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى على يد القوى الاستعمارية الأوروبية، ثم أعقبتها الموجة الثانية بعد الحرب العالمية الثانية مع انهيار النظام الاستعماري الأوروبي وزرع المستعمرة الصهيونية في فلسطين، وستبلغ الموجة الثالثة ذروتها مع صعود التعددية القطبية و تداعي النظام الأمريكي الأحادي في الشرق الأوسط، واستبداله باضطراب إقليمي متواصل. ويمثل صعود الفاعلين من غير الدول علامته المميزة هي الجهادية العالمية السنية مثل  تنظيمي الدولة الإسلامية (داعش) والقاعدة و والجهادية المحلية مثل هيئة تحرير الشام وحركات المقاومة مثل حماس والجهاد, وصعود جماعات المقاومة الشيعية مثل حزب الله وأنصار الله والحشد الشعبي.

في محاولة استشراقية ثقافوية لتبرئة الغرب الاستعماري والصهيوية من استحابة الجهادية العالمية وردها على الإذلال بعد أسابيع قليلة من أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، نشر المؤرخ والمستشرق ، برنارد لويس، كتابًا من أكثر الكتب مبيعًا بعنوان "ما الخطأ؟": الصدام بين الإسلام والحداثة في الشرق الأوسط، وقد طرح فيه أسئلة مهمة مخادعة، وذلك بطرح سؤال جوهري حول الإذلال، وقال أنه لقرون عديدة (على الأقل من القرن الثامن إلى السادس عشر)، كان الإسلام أعظم حضارة في العالم وأكثرها انفتاحًا واستنارة وإبداعًا وقوة، حيث، كان العالم الإسلامي في أوج ازدهاره. ومع ذلك، بحلول الوقت الذي بدأنا فيه "نحن" دخول عصر النهضة، سقط العالم الإسلامي في التراجع - ببطء شديد في البداية، ثم بلا هوادة، وأكد لويس على أنه لا يزال كثير من سكان الشرق الأوسط يركزون على السؤال التالي: "من فعل بنا هذا؟".

تباينت الإجابات مع مرور الزمن، بدءًا من المسيحية، والإمبرياليين الفرنسيين والبريطانيين، والغرب عمومًا، والصهاينة، لكن البعض حسب لويس في الشرق الأوسط يطرح سؤالاً أكثر انفتاحاً وضرورةً: "متى وقع الخطأ؟"

في لعبة اللوم الجماعية هذه، والإجابة الاستشراقية والثقافوية التي تبناها صموئيل هنتنجتون في مقالة "صدام الحضارات"، كانت تبرئة الغرب الاستعماري والصهيونية، والإحالة على ثقافة المنطقة وفي حوهرها الدين الإسلامي التي لم تنجز حداثتها، وحاءت الاستراتيحية الأمريكية  مع المحافظين الجدد ضرورة فرض ونشر الديمقراطية الليبراليةـ  ولكن بدلاً من التركيز على طبيعة الإسلام أو دور المسلمين، هل ينبغي التركيز على طبيعة الأنظمة؟ يكتب لويس أنها، إجمالاً، "فشلت في كل اختبار، إلا اختبار البقاء"، ولكن لويس وخلفاءه لا ينحفنا بكيفية بقاء المستبدين الفاسدين في السلطة في المنطقة، ويدرك الجميع أن الغرب الإمبريالي هو من يحافظ على وجود المستبدين ويمنحهم كافة الوسائل والأدوات الازمة لبقائهم، وكان الربيع العربي أحد الاختبارات القريبة لعلاقة الغرب بالمستبدين العرب.

كانت منطقة الشرق الأوسط الخصبة مهدًا لتطور الحضارات القديمة، وشكلت دار الإسلام مركز العالم في التقدم الحضاري، وكانت الإمبراطورية العثمانية الإسلامية، آخر قوة عالمية بناها المسلمون، قد ازدادت هشاشةً وقمعًا تجاه "رعاياها العرب" مع اقتراب نهاية حكمها الطويل. أما العرب المسلمون، الساعون للتحرر من ظالمهم الإسلامي، فلم يكترثوا للدفاع عنها ضد القوى الأوروبية "الكافرة"، التي كانت تدّعي العدالة والحرية والتحرر، ومع ذلك، لم تصل أيٌّ من الأفكار الموعودة إلى المنطقة مع قدوم القوى الأوروبية، التي استعمرت المسلمين العرب وأساءت معاملتهم بقسوةٍ، وقد أُذلّ المسلمون العرب على يد غير المسلمين، وازدادت حياتهم بؤسًا مع تفكيك الشريعة  ونظمهم المحلية، وتدمير اقتصاداتهم التقليدية، وتشويه ثقافاتهم، ونهب مواردهم، وإفساد سياساتهم. وأصبح المسلمون الآن، ولأول مرة في تاريخهم، "رعايا" للقوى الأوروبية المهيمنة.

إذا كانت الحرب العالمية الأولى قد أنهت الجغرافيا السياسية التي يهيمن عليها العثمانيون وأدت إلى إذلال العرب والمسلمين وأسقطت تظام الخلافة عام 1924، فإن الحرب العالمية الثانية أدت إلى انهيار الهيمنة الاستعمارية الأوروبية والجغرافيا السياسية. ومع ذلك، قبل منح "الاستقلال" لمستعمراتها الإسلامية والعربية، خاضت القوى الأوروبية حروبًا دامية ضد "حركات التحرير" المحلية، ثم أنشأت "دولًا قومية" مصطنعة ومتصارعة من المستعمرات السابقة ليحكمها ديكتاتوريون محليون رعاهم الأوروبيون. هذا الانتقال من الاستعمار إلى الاستعمار الجديد من شأنه أن يخدم الحكام المحليين والقوى الأجنبية على حد سواء.

إذا كانت الحرب العالمية الأولى قد أنهت الجغرافيا السياسية التي يهيمن عليها العثمانيون وأدت إلى إذلال العرب والمسلمين وأسقطت تظام الخلافة عام 1924، فإن الحرب العالمية الثانية أدت إلى انهيار الهيمنة الاستعمارية الأوروبية والجغرافيا السياسية. ومع ذلك، قبل منح "الاستقلال" لمستعمراتها الإسلامية والعربية، خاضت القوى الأوروبية حروبًا دامية ضد "حركات التحرير" المحلية، ثم أنشأت "دولًا قومية" مصطنعة ومتصارعة من المستعمرات السابقة ليحكمها ديكتاتوريون محليون رعاهم الأوروبيون. هذا الانتقال من الاستعمار إلى الاستعمار الجديد من شأنه أن يخدم الحكام المحليين والقوى الأجنبية على حد سواء.
خلال الموجة الأولى من الإذلال الاستعماري الأوروبي  بالتعاون مع المستبدين المحليين ونخبهم الجديدة، دشنت خريطة سايكس-بيكو عام 1916، و قُسِّم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى عدة دويلات صغيرة وصغيرة ذات حدود زائفة وجغرافيات وثقافات متباينة. وعزلَت هذه الدول الجديدة العائلات، وقسمت الجماعات العرقية والطوائف الدينية، ولم يكن لتكوينات الحدود المُخترعة، التي كانت في معظمها خطوطًا مستقيمة، أي أساس تاريخي أو حتى منطق جغرافي، وكان منطقها الوحيد سياسيًا: زرع بذور صراعات مستقبلية، وبالتالي تطبيق مبدأ "فرّق تسد"، ثم وضعت القوى الأوروبية هذه الدول المصطنعة تحت سيطرتها "الاستعمارية الجديدة"، وزادت من عزلتها إقليميًا وثقافيًا. كما بدأت عملية "بناء أمة" من أعلى إلى أسفل، لا تزال تُعيق المواطنة وتطور المجتمع المدني في المنطقة، إلا أن الحرب العالمية الثانية جعلت المنطقة عصية على السيطرة على المستعمرين في مواجهة حركات التحرر ، ومع بدء انسحاب الأوروبيين تدريجيًا من المنطقة، بدأت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق بملء الفراغ. ثم انغمس الشرق الأوسط بعد الحرب في الحرب الباردة بين القوتين العظميين الناشئتين، الرأسمالية والاشتراكية.

ظهرت الموجة الثانية من الإذلال في الجغرافيا السياسية بعد الحرب العالمية الثانية،حيث قسمت الحرب الباردة دول الشرق الأوسط الجديدة على خط متعارض بين الشرق والغرب، وبرز النفط كأهم مصدر للطاقة العالمية،. إلا أن أهم تطور إقليمي كان قيام دولة إسرائيل وتأسيس النكبة الفلسطينية عام 1948، وذلك نتيحة  استعمارية منطقية بعد  وعد بلفور عام 1917 ، الذي اعترف بحق الشعب اليهودي في أن يكون له وطن في فلسطين، حيث تعرض العرب للإذلال المهين مع النكبة مع التطهير العرقي والتهجير  لثلثي الشعب الفلسطيني وإقامة دولة إسرائيل، وأعقبه  الإذلال  الأقسى والأقصى  مع هزيمة النكسة  عام 1967، وانتصار الاستعمار إسرائيلي الساحق في حرب الأيام الستة على جيوش مصر وسوريا والأردن، وغزو سيناء والضفة الغربية ومرتفعات الجولان.

 في ظل الحرب الباردة تولت الولايات المتحدة آنذاك مسؤولية  تأمين السيطرة على النفط وضمان أمن إسرائيل والدول العربية  الموسومة بـ"المعتدلة"، بينما دعم الاتحاد السوفيتي القوى القومية في المنطقة، وفي عالم ثنائي القطب، أصبح ريع النفط نقمةً إضافية على الشعوب العربية، إذ أدى إلى انقسامات طبقية حادة بين أقلية ثرية وأغلبية فقيرة، مع وجود طبقة متوسطة صغيرة، كما أدى النفط إلى مشتريات عسكرية وترفيهية ضخمة، وتوسع عمراني غير متوازن، وإهدار بيئي، وتنامي الدكتاتورية والفساد في الدول التابعة والضعيفة، وظهرت عدة انقلابات قومية وبرزت حركات مقاومة ضد إسرائيل. إلا أن هذه الدول والحركات القومية واليسارية فشلت في طرد القوى الإمبريالية؛ وفشلت في هزيمة إسرائيل؛ كما فشلت في تحقيق وعد العدالة والحرية والاستقلال، وشكلت الهزائم في الحروب وخسارة الأراضي الفلسطينية  للدولة اليهودية الجديدة أثرٌ بالغ الأثر وأصبحت مصدرًا جديدًا للإحباط والغضب، ورسخت المزيد من مشاعر الإذلال، وفي خضم تلك العملية تفاقمت التفوقية الغربية العرقية العنصرية، بوصف العرب والمسلمين بالجهل والتخلف والتطرف والعنف والإرهاب،  وتضاعفت إهانة الشعوب العربية والإسلامية على يد حكامهم المستبدين والفاسدين، الذين تمتع معظمهم برعاية ودعم القوى الغربية عموما  والأمريكية خصوصا بسحق  المعارضات القومية والإصلاحية والاشتراكية. وقد أدى كل ذلك إلى صعود القوى الإسلامية السياسية والجهادية.

بلغت الموجة الثالثة  من الإذلال للعرب ذروتها مع صعود التعددية القطبية و تداعي النظام الأمريكي الأحادي في الشرق الأوسط، والتي شهدت هزيمة القومية العربية  وصعود التيارات الإسلامية على اختلاف توجهاتها وأوجهها الإصلاحية والسياسية والجهادية، حيث برزت تأكيدات الهوية بفعل الإذلالات الممنهجة المركبة الدولية والاقليمية والمحلية، وقد بات واضحاً  أن الجماعات الإسلامية العنيفة  الموصومة بالإرهابية في الشرق الأوسط وخارجه هي نتاج هذا الشعور بالإهانة والإذلال، وتنامى الاعتقاد بأن "الإسلام هو الحل" ضد الطغاة "المحليين" والغزاة "الدوليين" والمحتلين "الاقليميين"، وقد برهن  الربيع العربي 2011 والطريقة العنيفة التي تم بها اجهاضة على يد ذات قوى الإذلال أن الإهانة ليست خيارا استراتيجيا، والتحولات التي يشهدها العالم العربي هي مجرد ارهاصات لتحولات ذات طابع أكثر عنفاً، في إطار التحول على الصعيد الديموغرافي، فقد وصل الجيل الأخير من جيل طفرة المواليد في العالم العربي إلى سوق عملٍ ازدادت قسوته بسبب آثار الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية التي بدأت عام 2007 في الغرب، وهؤلاء الشباب ذوو المؤهلات والتعليم حطموا "جدار الخوف"، مدفوعين بمجموعة من الأسباب السياسية والأخلاقية والدينية.

وخلف الإحباطات الاقتصادية الشديدة، كانت هناك رغبة حقيقية وعميقة في الحرية ورفض للفساد وسياسات الإذلال، وعقب الانقلاب على ثورات الربيع العربي وقمعها بقسوة، وخضوع الأنظمة الاستبدادية العربية لللإمبريالية الأمريكية والاستعمارية الصهيونية من خلال الاتفاقات التطبيعية "الإبراهيمية"، فإن "طوفان الأقصى" كان حتمياً حيث سياسات الإذلال في ذروتها وأوجها، فحدث السابع من أكتوبر هو تعبير صريح عن ما تبقى من هذه الفترة المضطربة التي خلقت شعور مُضاف بالإهانة والإحباط والفشل، فما قام به بن لادن ثم البغدادي فالسنوار هو نتاج حقب من "الإذلال"، لا تمتلك أوهاماً بالنصر الحاسم، لكنها تستند إلى أن الكرامة مسألة وجودية.

خلاصة القول إذا استمر المسار الحالي من "الإذلال" للشعوب العربية، فلن تشهد المنطقة العربية سلامًا واستقرارًا، بل صعودا مؤكدا للجهادية العالمية والمحلية وحركات المقاومة، وسيصمد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)  وستتمدد القاعدة، وتزدهر حركات المقاومة بأسماء متعددة وإيديولوجيات مختلفة،  وعلى ثلاثي الإذلال والقهر العالمي والإقليمي والمحلي أن يتحضروا لموجات من جيل متعطش إلى  الكرامة وسئم الإذلال، وعلى العرب أن يحسموا خياراتهم في التعامل مغ قرن الإذلال الطويل، وأن يدركوا أن  الاستسلام للمشاريع الإمبريالية الغربية والاستعمارية الصهيونية لن يجلب سوى المزيد من الإذلال والإهانة دون الاستقرار والازدهار، فما تعد به القوى الغربية والإسرائيلية هو قرن جديد من الإذلال. 
التعليقات (0)