صحافة دولية

حدود توازن بوتين.. ما الذي سيضحي به الكرملين سعيا وراء النصر في أوكرانيا؟

جمود في المشهد العسكري بأوكرانيا منذ أشهر- جيتي
جمود في المشهد العسكري بأوكرانيا منذ أشهر- جيتي
نشرت مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية تقريرا يحلل الاستراتيجية الداخلية والخارجية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي نجح في تحقيق استقرار نسبي داخل روسيا مما جعل الاستقرار هبة ثمينة لدى غالبية الروس رغم ما تشهده الحياة السياسية من تضييقيات.

وقالت المجلة، في هذا التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إن بوتين حقق هدوءا غريبا في الداخل، فبعد توليه الرئاسة سنة 2000 ربطَ طبقة الأوليغارشيين التي كانت مستقلة بالدولة وسعى إلى استرضاء الطبقة المتوسطة المتنامية من خلال رفع مستويات المعيشة وتوفير وسائل راحة مادية أفضل، وبنى أيديولوجية حاكمة من بقايا ماضي روسيا، أيديولوجية قومية بما يكفي لإثارة الفخر لكنها لا تصل إلى حد إثارة الانقسام.

وتابعت، بعد ربع قرن في السلطة، أوصل بوتين روسيا إلى نقطة توازن تجعل الحياة الروسية الآن قابلة للتنبؤ بشكل مريح. فبينما تغمر الفوضى الشرق الأوسط، وتعصف التغييرات بالسياسة الأمريكية، وتشهد أوروبا أسوأ حرب لها منذ 1945، منح بوتين الروس الهدية التي كانوا يتوقون إليها بشدة: الاستقرار، فالبلاد لا تعاني من اضطرابات سياسية ظاهرة، بل تكاد روسيا لا تملك أي نشاط سياسي على الإطلاق، ذلك أن الدولة تقمع في الغالب من يجرؤون على التعبير عن استيائهم وهم أقلية ضئيلة من الروس.

وفي هذا الترتيب، يحتفظ الكرملين بالسيطرة ويستطيع معظم الروس ممارسة أعمالهم، شريطة أن تكون غير مزعجة للدولة.

وذكرت المجلة أن هناك حقيقةً أخرى تلقي بظلالها على هذا التوازن، فلطالما وعد بوتين الروس ببلد مرصع بالطموح والقوة والمجد. كانت مهمة بوتين التاريخية، كما رآها، هي استعادة روسيا كلاعب رئيسي على الساحة الدولية.

وفي مؤتمر ميونيخ للأمن سنة 2007، توجّه إلى الغرب دون أي احترام، موبخا الولايات المتحدة وحلفاءها على "الإجراءات الأحادية وغير المشروعة في كثير من الأحيان التي "تسببت في مآسٍ إنسانية جديدة وخلقت بؤر توتر جديدة".

وبعد أربعة أشهر، أرسل بوتين عشرات الآلاف من القوات الروسية إلى جورجيا، واستولى على خُمس أراضيها. وفي سنة 2014، غزت روسيا دونباس، في شرق أوكرانيا، وضمت شبه جزيرة القرم.

وفي السنة التالية، استعرض الجيش الروسي قدراته الاستكشافية في سوريا. وفي سنة 2022، شنّ بوتين حربا شاملة على أوكرانيا، بهدف إعادة رسم خريطة أوروبا وتأكيد ثقل روسيا العالمي.


وأشار تقرير المجلة، إلى أن التوسع الخارجي المفرط أوقع بوتين في مأزق، فالسياسة الخارجية الروسية تتسم بفشل متزايد، وقد وصلت الحرب في أوكرانيا إلى طريق مسدود. وعلى عكس آمال بوتين، لم تُجبر إعادة انتخاب ترامب الغرب على التخلي عن كييف.

وفي الشرق الأوسط، هاجمت إسرائيل عملاء روسيا وشركائها، ومع أن هذه التطورات قد تعد نذيرًا لانسحاب روسيا النهائي من أوكرانيا إلا أنها ليست كذلك، فبوتين يستطيع تحمل خسارة نفوذه في الشرق الأوسط، لكنه لن يغير مساره في أوكرانيا، بل إنه قد يُضحي بتوازن روسيا لصالح تعبئة جماهيرية وإجراءات قسرية قاسية في هذه الجبهة.

اظهار أخبار متعلقة



هدوء غريب
وأوضحت المجلة أن هدوء روسيا الحالي ينبع من تغيرات العقد الماضي. فقد ارتفعت شعبية بوتين، التي لطالما كانت عالية، عقب ضمه شبه جزيرة القرم سنة 2014، واستقبل الروس سياسة خارجية أكثر صرامة بفخر كان من الصعب اكتشافه في أواخر العقود السوفيتية وفي أوائل روسيا ما بعد السوفيتية،  ولم تتطلب هذه الوطنية تضحيات من الروس؛ فقد كانت القطيعة مع الغرب محدودة وثبت أن العقوبات التي فرضتها الدول الغربية على روسيا سنة 2014 ضعيفة.

وبدأ بوتين هذا التوازن بين التصرف بحزم في الخارج وعزل الجبهة الداخلية عن المخاطر قبل عقدين من الزمن، وبحلول سنة 2022 كان قد أتقنه. لقد واجه الجمهور في البداية صعوبة في فهم الحرب على أوكرانيا، لكن بوتين استغل الصراع لإثارة المشاعر الوطنية وتعزيز الولاء للدولة. وقد ساعده في ذلك هجرة العديد من الروس المعارضين للحرب ومئات الصحفيين والإعلاميين الذين ينتقدون الحكومة. 

وشكلت الحرب فرصة بالنسبة للعديد من الروس الذين بقوا. فقد انطلق النشاط الاقتصادي في قطاعات التصنيع المرتبطة بالدفاع، وانخفض معدل البطالة بشكل حاد حيث حفّز الكرملين مئات الآلاف من الشباب على التجنيد، بينما كان بإمكان العديد من الروس تجاهل الحرب تمامًا. وقد حدّت العقوبات وقيود التأشيرات من بعض مُتع الاستهلاك الفاخرة، وأصبحت العطلات في أوروبا مُحظورة في الغالب، لكن العديد من الدول لا تزال تُصدّر إلى روسيا، ويتمتع الروس بحرية السفر في معظم أنحاء آسيا وتركيا والإمارات العربية المتحدة وجنوب القوقاز.

وبحسب المجلة فإنه على عكس ستالين، لم يستغل بوتين الإمكانات الديكتاتورية للدولة إلى أقصى حد فقد تجنب سفك الدماء داخليًا على نطاق واسع، لكنه برع في ممارسة العنف التمثيلي؛ حيث يوجد اليوم حوالي 2000 سجين سياسي في روسيا، وهم يُشكلون تحذيرًا للجميع. ورغم خضوع الشباب بشكل متزايد للتلقين العقائدي، إلا أن البالغين غير النشطين سياسيًا يستطيعون عيش حياتهم المهنية والخاصة دون أي إزعاج من الحكومة. نادرًا ما تفرض الدولة مطالب مرهقة على الجمهور الروسي، تاركةً في الغالب الطبقات الحضرية والمتوسطة لأجهزتها الخاصة.

وحتى مع الخدمة العسكرية الإلزامية، يتمتع الروس بحرية اختيار مقدار مشاركتهم في النظام حيث يختار البعض الوطنية العسكرية والتجنيد التطوعي أو مجرد التلويح بالعلم في التجمعات. أما الأغلبية الصامتة فتتمتع بازدهار نسبي ولامبالاة نسبية من جانب الدولة.

ضغوط متفاقمة
أشارت المجلة إلى أن التوازن الذي عززه بوتين كان أكثر هشاشة مما يبدو، فحرب قصيرة في أوكرانيا كانت ستحافظ على الوضع الراهن في الداخل لأن الحروب الناجحة تُعزز المكانة السياسية الداخلية للمنتصرين، وربما نسج بوتين رواية انتصار على حلف الناتو وعلى الولايات المتحدة التي كانت تُنسب لنفسها الفضل في انتصار الحرب الباردة. 

وأضافت أنه لسوء حظ الكرملين، لم تكن الحرب في أوكرانيا انتصارًا على الإطلاق. بحلول شباط/ فبراير 2026، ستكون الحرب قد استمرت لمدة تعادل مدة الحرب ضد ألمانيا النازية بالنسبة للاتحاد السوفيتي. لقد دفعت الحرب العالمية الثانية الاتحاد السوفيتي إلى مرتبة القوة العظمى، بينما يتدهور وضع روسيا في أوروبا والعالم أجمع. 

وأردفت، "بضخّها موارد هائلة في الحرب، ضيّقت موسكو الخناق على مواقعها العسكرية في أماكن أخرى. في سنة 2023، لم تحرك روسيا ساكنًا عندما خسرت شريكتها أرمينيا إقليم ناغورنو كاراباخ لصالح أذربيجان. وفي أواخر السنة الماضية، فشلت في منع سقوط الرئيس السوري بشار الأسد، وتتعرض إيران، أحد شركاء روسيا الرئيسيين، لضربات موجعة من إسرائيل والولايات المتحدة، بينما تقف موسكو عاجزة على الحياد".

وتعتمد روسيا بشكل متزايد على الصين للوصول إلى الأسواق الخارجية وشراء السلع ذات الاستخدام المزدوج التي تُغذّي المجهود الحربي، إلا أن الاستثمار الصيني المباشر ونقل التكنولوجيا كان محدودا.

وفي المجمل، أهدرت روسيا موارد هائلة في حربٍ لا تنتصر فيها، ومع أن أوكرانيا نفسها بعيدة كل البعد عن النصر، إلا أن أكبر مدنها وجزء كبير من أراضيها لا يزالان خارج سيطرة الكرملين، والأراضي التي تمكنت روسيا من احتلالها لا تُشكل جسرًا حيويًا إلى أوروبا، بل هي أماكنٌ مزقتها الحروب والفقر. تُشكل موهبة أوكرانيا في الابتكار التكنولوجي مشكلةً أخرى للكرملين، مثل الهجوم الاستثنائي الذي دبرته مؤخرًا على قواعد جوية في عمق روسيا.

وأوضحت المجلة أن ترامب غير موقفه تجاه أوكرانيا مؤخرًا حيث تعهّد بتزويدها بأسلحة متطورة عبر حلف الناتو، وانتقد بوتين لإطالة أمد الحرب دون داعٍ. وفي الوقت نفسه، بدأت أوروبا تُنفق المزيد على الدفاع، وتُكثّف الدول الأعضاء في حلف الناتو تنسيقها العسكري، وفي حال تخلّت الولايات المتحدة كليًا عن أوكرانيا فلن تحذو أوروبا حذوها، بل ستواصل الدول الأوروبية المزدهرة والقوية دعم كييف. ومن غير المرجح أن ترفع أي دولة أوروبية كبرى العقوبات أو تعود إلى مستويات ما قبل الحرب من التجارة مع روسيا.

وكما يرى التقرير فإن بوتين لا يُظهر أي نية على التراجع في مواجهة هذه الضغوط المتراكمة مصممًا على الفوز مهما كلف الأمر حيث اختار إخضاع الاقتصاد الذي يعاني للحرب، مما أدى إلى ركود وارتفاع في التضخم وانخفاض معدلات النمو باستمرار، كما أن الأزمات الخارجية، مثل انهيار الحكومة الإيرانية أو الركود الاقتصادي العالمي، قد تزيد الأمور سوءًا.

اظهار أخبار متعلقة



ديكتاتورية بلا قيود
وأكدت المجلة أن هذه التطورات قد تُزعزع التوازن الذي سعى بوتين جاهدا إلى ترسيخه. وعلى الرغم من أن  الروس لا يزالون بعيدين عن الثورة على النظام، إلا أنهم قد يبدأون الانقلاب على الحرب والتشكيك علناً في جدوى هذا الصراع الذي يبدو بلا نهاية.

وفي صيف 2023، شن زعيم المرتزقة يفغيني بريغوزين تمردًا صغيرًا بإرسال قافلة من الدبابات باتجاه موسكو قبل إبرام صفقة مع بوتين. وبعد شهرين، مات في حادث تحطم طائرة كان من شبه المؤكد أن الكرملين هو من دبره. 

وقد يكون من الصعب على بوتين وفق رأي المجلة، التعامل مع الجنود والمحاربين القدامى المنهكين والمحبطين من الحرب لهذا حاول الكرملين تهدئتهم بالمال والامتيازات. قد يصدر اضطراب من النخبة الروسية نفسها، رغم عدم وجود أي علامة على العصيان بين الروس الذين يسيطرون على الثروة والسلطة حتى الآن، إلا أن البعض قد يميل إلى استكشاف أشكال خفية من المعارضة. 

وفي الختام، أشارت المجلة إلى أن امتناع بوتين عن اتباع نهج صارم لا يرجع لعدم رغبته في استخدام القوة القسرية في روسيا بل لتردده في تقويض الهدوء الذي حرص على صياغته بشق الأنفس. فإذا تخلى عن هذا التوازن، سينتهي به الأمر إلى شن حرب عصابات في أوكرانيا، مما يجر روسيا أكثر إلى الداخل ويزيد من ضراوة الخراب الذي يلحق بالشعب الأوكراني. وهكذا، قد يحوّل دكتاتورية ضمنية إلى دكتاتورية كاملة الأركان، بصلاحيات سياسية قاتمة، وشهوات جيوسياسية جامحة.
التعليقات (0)

خبر عاجل