"نريد أن
نرى النور في نهاية النفق"، نقولها كثيرا، كأنّ
الثورة ممرّ مباشر إلى الفردوس.
لكن ماذا لو كان النفق هو الحياة ذاتها، والثورة ليست ضوءا في نهايته، بل طريقة مشي
مختلفة في ظلمته؟
لطالما ارتبطت الثورة،
في الخيال الجمعي، بوعد الخلاص: إسقاط نظام، وانهيار منظومة، وصعود عالم جديد أكثر
عدلا وحرية. غير أنّ هذا الخيال، الذي تغذيه سرديات التمكين والانتصار، يتهشّم سريعا
حين تبدأ مواجهة الواقع: لا شيء ينهار دفعة واحدة، ولا شيء يُبنى دفعة واحدة.
ففي معظم التجارب
العربية، ما إن سقط رأس النظام حتى وجد الناس أنفسهم أمام جدارٍ أكثر صلابة: الدولة
العميقة، والثقافة السلطوية، والوعي الموروث، والخيبة الكبرى.
وهكذا، تتحوّل الثورة
إلى ما يشبه "الومضة"، أو "الحلم العابر"، لا لأن الثورة مستحيلة،
بل لأن التوقعات كانت طوباوية، والخطاب مؤسَّس على وهم الخلاص لا منطق السيرورة.
أراد الكثيرون من الثورة أن تكون تعويضا عن الفشل التاريخي، قفزة على الزمن، لا مسارا طويلا من إعادة تكوين الفرد والمجتمع والدولة. ولذلك، حين بدأ الواقع يُكشّر عن أنيابه، وانكشفت تعقيدات الصراع، انهارت الهالة بسرعة، وبدأ الانقلاب على الفكرة ذاتها
الحنين إلى معجزة:
حين يُختزل التغيير في إسقاط الرأس
لعبت ثورات العقد
الأخير دورا تاريخيا في كسر حاجز الخوف، لكنّها في المقابل كشفت هشاشة الخيال السياسي
العربي.
لقد أراد الكثيرون
من الثورة أن تكون تعويضا عن الفشل التاريخي، قفزة على الزمن، لا مسارا طويلا من إعادة
تكوين الفرد والمجتمع والدولة. ولذلك، حين بدأ الواقع يُكشّر عن أنيابه، وانكشفت تعقيدات
الصراع، انهارت الهالة بسرعة، وبدأ الانقلاب على الفكرة ذاتها.
من "الشعب يريد"
إلى "ما الذي فعله الشعب؟"، من الحلم الجماعي إلى الاتهام المتبادل، من الميدان
إلى المنافي أو السجون أو الصمت. وهنا تتكرّر الحلقة القديمة: خيبة، فعدمية، ثم توق
إلى مخلّص جديد.
لا نبيّ بعد الثورة.. ولا خلاص قادم
ربّما كان على الثورات
أن تتحرّر منذ البداية من عقدة "الخلاص".
فالثورة لا تَعِد، بل تُربّي. لا تُنتج الزعيم، بل تُنتج المواطن.
وحين نُسقِط على الثورة
أوهام الخلاص الدنيوي، نُحمّلها ما لا تحتمل. ذلك ما حوّل كثيرا من الثائرين إلى ناقمين،
ومن الحالمين إلى كارهي أحلامهم.
الثورة ليست طقسا
دينيا، ولا نزولا للعناية من السماء. هي سيرورة طويلة، تبدأ بإعادة صياغة الأسئلة قبل
القوانين، الذوق قبل البرامج، العقل قبل الشارع.
الثورة كإعادة تكوين
للذوق السياسي
لا يكفي أن نُسقط
المستبد، إن لم نسقط معه "الذائقة السلطوية" التي نُعيد إنتاجها في البيت،
والمدرسة، والمسرح، والجامع، والمقهى، ومواقع التواصل.
الذوق السياسي ليس
زينة، بل هو الطين الذي تُصنع منه مفاهيم مثل الطاعة، والشرعية، والكرامة، وحتى الثورة
ذاتها.
إن لم تتغيّر هذه
الذائقة، فسنُنتج نفس الاستبداد بأقنعة جديدة: استبداد باسم الدين، أو باسم الهوية،
أو باسم الثورة.
والأخطر: أن نُلبس
الضحية قناع العصمة، فنمنع عنها النقد، ونُعيد تكريس الطاعة باسم المعاناة.
نحو نضج سياسي: من
الشعارات إلى التربية السياسية
لا يمكننا الحديث عن تغيير حقيقي دون تربية سياسية جديدة، تُعلّم الناس مهارات الحُكم قبل طلب السلطة، ومهارات التفكير قبل الاصطفاف
المشكلة ليست في الحلم،
بل في التواكل عليه.. في تحويل الثورة من مسؤولية جماعية إلى طقس جماهيري.. في الاستعاضة
عن التنظيم بالتكبير، وعن الصبر السياسي بالانفعال.
لذلك، لا يمكننا الحديث
عن تغيير حقيقي دون تربية سياسية جديدة، تُعلّم الناس مهارات الحُكم قبل طلب السلطة،
ومهارات التفكير قبل الاصطفاف.
هذا التكوين السياسي
ليس مهمّة الأنبياء، بل عمل المثقفين والمربين والمعلمين والفاعلين في الحيز العام،
وهو ما يحتاج إلى سنوات من التراكم، لا إلى هتاف عابر أو منصة طارئة.
خاتمة: لا خلاص في
الأفق.. لكن لا بأس
وإذا كان لا خلاص
في الأفق، فلا بأس. لسنا بحاجة إلى نورٍ ساطعٍ من السماء، بقدر ما نحتاج إلى شرارة
صغيرة في الداخل لا تنطفئ.
ما يهمّ هو أن نرفض
الاستسلام للخرافة، ونبدأ من أبسط البدايات: أن نُرمّم وعينا، ونعتني بلغتنا، ونزرع
في أطفالنا بذور السؤال، لا بذور الخوف.. أن نُحافظ على تلك الفسحة الضيّقة من الكرامة
داخلنا، ونوسّعها، قليلا قليلا، حتى تُصبح أرضا قابلة للحرية.
فربما لا نُغيّر العالم
غدا، لكن يكفي أن نكفّ عن أن نكون جزءا من إعادة إنتاج قبحه.