مقالات مختارة

تونس و«مؤامرات» لا تنتهي!

محمد كريشان
الأناضول
الأناضول
المؤامرات في تونس معين لا ينضب… فلا يكاد يمر وقت طويل حتى تخرج السلطة بمؤامرة ما تزعم أن «الخونة والعملاء» يحبكونها في «الغرف المظلمة… وفي ارتماء في أحضان الخارج… لتفجير الدولة من الداخل»، وغير ذلك مما بات يحفظه الناس عن ظهر قلب.

وإذا لم يخرج الرئيس قيس سعيّد شخصيا بإحداها بين كل فترة وأخرى، وهو المفتون الدائم بالحديث عن المؤامرات، توكل «المهمّة» لبعض الصغار ممن أدمنوا هذا الدور فيرمي بها في موقع «فيسبوك» لتشرع كرة الثلج في التدحرج عساها تتحوّل سريعا إلى «قضية الساعة» و«فضيحة الموسم».. وهكذا.

آخر «المؤامرات» ما خرج به أحد هؤلاء من أنه تم العثور في مكتب حركة النهضة ومنزل زعيمها راشد الغنوشي القابع حاليا وراء القضبان على وثيقة كتب فيها بخط اليد ما يلي «هذه الوضعية (في البلاد) ستستمر ما دام الرئيس حيّا»، وهذا يعني -وفق نفس الشخص- أن هذه الوثيقة «تؤكّد وتعكس نيّة الحركة وتخطيطها وتفكيرها في اغتيال رئيس الجمهورية قيس سعيّد»، دون أن نعرف بالضبط لماذا انتظرت هذه الوثيقة أكثر من عامين على حادثة اعتقال الغنوشي وتفتيش بيته ومكتبه حتى تظهر الآن!!.

وبما أن كل مجالات التعبير السياسي قد سٌدّت بالكامل واختفت كل البرامج السياسية الإذاعية والتلفزيونية التي كانت تعجّ بها البلاد، فإنه لم يبق من فضاء للخوض في قضايا البلاد والعباد سوى موقع «فايسبوك»، مع أنه ليس مأمون العواقب دائما فكم من شخص اعتقل وحوكم بسبب تدوينة أو مشاركة لموقف، كان آخرهم أخت المحامية سنية الدهماني المعتقلة لمجرد التضامن معها والتشهير بما تتعرض له أختها في السجن من تضييق وتنكيل.

لم يتأخر الرئيس التونسي في اللحاق بمساهمته في الدفع أكثر بكرة الثلج التي أمر هو بدحرجتها، فقد جاء في بيان لرئاسة الجمهورية بعد استقبال سعيّد لرئيسة حكومته أن «التحدّي لن يُقابل إلاّ بالتحدّي والشّعب التونسي سيُواصل شقّ طريقه وسيُحبط كلّ المؤامرات وكلّ الترتيبات التي تُحاول جيوب الردّة أن تُؤجّج بها الأوضاع، فهؤلاء الذين يحنّون إلى الوراء سقطت عن وجوههم كلّ الأقنعة بالرغم من أنّهم يضعون كلّ يوم قناعا جديدا يعلم الشّعب التونسي أنّها أقنعة لم تعد تخفى على أحد».

المشكلة في تونس أن «مؤامراتها» يراد لها أن تعلن كبيرة ومخيفة ليتضح في النهاية أنها لا شيء، والقائمة هنا طويلة، حتى ولو اكتفينا فقط بـ«محاولات اغتيال» رئيسها: محاولة تسميم الرئيس عبر المخبزة، هو خبر نشرته صحيفة يومية، تعشق موالاة أي سلطة مهما كانت، لم نر لها بعد ذلك تكذيبا أو تأكيدا أو متابعة، محاولة أخرى عبر «ظرف مسموم» أصيبت جراءه مديرة مكتب الرئيس بعمى مؤقت وقد اتصل رؤساء دول بسعيّد للاطمئنان عليه لكن لم نسمع بعد ذلك أي شيء عن هذه القضية، تصريحات للرئيس نفسه في اجتماعات لمجلس الأمن القومي ومن وزير داخليته السابق توفيق شرف الدين عن محاولات اغتيال (إحداها بتحريض من «شخصية سياسية تونسيّة تحظى بحماية أمنيّة تحرّض ضدّ رئيس الدولة و تدعو لاغتياله»، كما نشر وقتها) لكن لم نر لاحقا لا توجيه تهمة لأحد ولا إيقافات ولا شيء.

لقد فقدت مفردة «مؤامرة» في تونس كل قيمة لها فلم تعد تعني شيئا، بل تحوّلت إلى موضوع تندّر لدى التونسيين يعمّق مأساة مصداقية الحكم في تونس وسوية تصرّفاتها، قبل أن يضيفوها إلى ما يصفونه بــ «الوعود الكاذبة» التي أطلقها الرئيس منذ انقلابه على الدستور في 25 يوليو/ تموز 2021 واحتكاره لكل السلطات بلا حسيب ولا رقيب: إرساء المحكمة الدستورية، محاربة الغلاء، وتوفير موارد مالية جديدة للدولة، استعادة الأموال المنهوبة من الخارج، بناء مدينة طبية كبيرة في مدينة القيروان، معرفة من نهب القروض والهبات التي منحت للدولة وفق اتهام الرئيس، حل معضلة البطالة، مقاومة الاحتكار، إصلاح التعليم والنقل والصحة، محاربة الفساد، إصلاح البنية التحتية وتطويرها، معالجة مشكلة المهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء، حل مشكلة شهداء الثورة وجرحاها، والقائمة أطول من هذا بكثير.

لا يمكن هذه المرة فصل الحديث المتكرّر عن «مؤامرة» غائمة ومبهمة لاغتيال الرئيس عن اقتراب موعد الذكرى الرابعة لاستحواذه على كل السلطات، ولكن بصفر إنجازات، لا سياسية ولا معيشية ولا تنموية، وبالتالي فمن الأفضل إشغال الرأي العام بمؤامرة جديدة كملهاة للرأي العام حتى تمر ذكرى الانقلاب بأقل ما يمكن من جرأة في جردة الحساب المؤلمة.

لهذا كله كتب أحدهم يقول في «فيسبوك» عن «المؤامرة» الجديدة : «في لحظة كان يجب أن يخرج فيها ليُبرّر سنوات الخراب…اختار أن ينشر ورقة. ليس بيانًا، ولا إنجازًا، ولا مشروعًا، بل قصاصة خطّها مجهول. خمس سنوات من لا شيء… ثم ورقة مكتوبة بخط اليد..خمس سنوات من سلطة مطلقة… هل هذا ما تبقّى لك؟!! قصاصة من مكتب متهالك، في مقرّ مغلق، تعيد بثّها في الذكرى الخامسة وكأنك تعيش يوم الانقلاب نفسه؟! كأن التاريخ لم يمرّ، كأنك لا تعرف أن الناس باتت لا تخاف. جملة تُكتب على الجدار:»ما دام الرئيس حيًّا؟ بل ما دامت الشعوب حيّة… فلن يعيش الكاذب طويلا».

القدس العربي
التعليقات (0)

خبر عاجل