نشرت صحيفة "لوموند" الفرنسية
تقريرا سلطت خلاله الضوء عن كيفية تعقب إسرائيل مؤخراً لعلماء البرنامج النووي الإيراني.
وقالت الصحيفة, في تقريرها الذي ترجمته "عربي21"، إن الهجمات الإسرائيلية التي نُفذت خلال شهر حزيران/ يونيو أسفرت عن مقتل 16 باحثًا إيرانيًا من الصف الأول، يُعتقد أن العديد منهم كانوا منخرطين في تطوير البرنامج النووي العسكري الإيراني، وتحديدًا في مساعي طهران لإنتاج قنبلة نووية.
وتضيف الصحيفة أن المعطيات تُظهر أن إسرائيل كانت تتابع عن كثب تحركات هؤلاء العلماء الإيرانيين منذ أكثر من عشرين عاما، في إطار جهودها المستمرة لتعطيل برنامج طهران النووي.
وكان من بين المستهدفين الفيزيائي فريدون عباسي، الذي نجا من محاولة اغتيال في سنة 2010. ويُعرف عباسي بحماسه وتفانيه في العمل. وفي محاولة الاغتيال الأولى نجح في القفز خارج سيارته برفقة زوجته قبل لحظات من انفجار عبوة ناسفة، يُعتقد أن عملاء إسرائيليين زرعوها.
وتُعد تلك العملية بداية سلسلة من
الاغتيالات التي استهدفت علماء نوويين إيرانيين، ونُسبت في معظمها إلى إسرائيل.
وشغل عباسي منصب نائب رئيس الجمهورية، وتولى رئاسة المنظمة الوطنية للطاقة الذرية، ومن موقعه ذاك، عارض بشدة أي اتفاق دولي من شأنه تقييد البرنامج النووي الإيراني.
وقتل عباسي في 13 حزيران/يونيو، ضمن سلسلة الاغتيالات الأخيرة. إلى جانبه، وُري الثرى عدد من زملائه المرتبطين بـ"منظمة الابتكار والبحوث الدفاعية"، وهي هيئة يُشتبه منذ التسعينيات بأنها تقود أبحاثًا سرية تهدف إلى عسكرة اليورانيوم المخصب، تمهيدًا لامتلاك القدرة على تصنيع سلاح نووي في حال قررت القيادة الإيرانية اتخاذ هذه الخطوة.
ووفق الصحيفة، في 22 حزيران/ يونيو، أسقطت الطائرات الأميركية قنابل خارقة للتحصينات على منشآت تخصيب اليورانيوم الإيرانية المدفونة عميقا تحت الأرض، في مواقع "فوردو" و"نطنز" و"أصفهان"، ما جذب أنظار العالم إلى تطور خطير في المواجهة النووية. لكن، ورغم الزخم الإعلامي المصاحب لتلك الغارات، ترى إسرائيل أن نجاحها الحقيقي تحقق عبر عمليات أكثر هدوء وسرية، يصعب تمييزها من بين مئات الضربات التي نُفذت خلال الاثني عشر يومًا الماضية.
اظهار أخبار متعلقة
لم تختف جميع المعارف النووية
وذكرت الصحيفة أن إسرائيل تؤكد أن اغتيال 16 عالمًا نوويًا إيرانيًا وتدمير المختبرات التي كانوا يعملون فيها، كفيل من وجهة نظرها بالقضاء على الشقّ العسكري من البرنامج النووي الإيراني. ورغم الإقرار الضمني بإمكانية بقاء كميات من اليورانيوم عالي التخصيب (بنسبة 60 بالمئة) داخل الأراضي الإيرانية، ترى تل أبيب أن غياب الكفاءات القادرة على تحويل هذه المادة إلى سلاح فعّال قد جمد هذا التهديد في الوقت الراهن.
وفي 13 حزيران/يونيو، أسفرت أولى الهجمات الإسرائيلية عن مقتل ما لا يقل عن تسعة علماء ينتمون إلى "منظمة الابتكار والبحوث الدفاعية". وقد نجا العالم محمد رضا صديقي صابر، من هذه الموجة الأولى، إلا أن الهجوم أودى بحياة ابنه البالغ من العمر 17 عامًا داخل منزل العائلة في طهران.
وعقب الحادث، غادرت العائلة العاصمة ولجأت إلى شقة في مدينة "أستانه أشرفية" الواقعة قرب بحر قزوين. لكن المخابرات الإسرائيلية لاحقت صابر هناك، ونفّذت عملية اغتياله في 25 حزيران/ يونيو، قبل ساعات فقط من بدء سريان وقف إطلاق النار.
وتُشير المعطيات إلى أن غالبية العلماء الذين طالتهم الاغتيالات إن لم يكن جميعهم كانوا على صلة مباشرة بالبرنامج النووي الإيراني القديم الذي أُطلق في تسعينيات القرن الماضي، ويُعد النواة الأولى للشقّ العسكري المحتمل في مشروع إيران النووي. وقد أعيدت هيكلة هذا البرنامج ثلاث مرات، وصولًا إلى شكله الحالي تحت اسم "منظمة الابتكار والبحوث الدفاعية".
وتدعي إسرائيل أن إيران اتخذت قرارًا بإعادة هيكلة "منظمة الابتكار والبحوث الدفاعية" قبل أقل من عامين، في خطوة أعادت الزخم إلى مشاريع بحثية كانت مجمّدة.
وخلال الأشهر الماضية، جرى وفقا لمصادر استخباراتية إسرائيلية إحياء عدد من البرامج العلمية التي تعمل على قضايا شديدة الحساسية، من بينها: ضغط اليورانيوم باستخدام متفجرات وتطوير مصدر نيوتروني قادر على إطلاق تفاعل نووي متسلسل ومشاريع تهدف إلى تصغير حجم القنبلة النووية.
وذكرت الصحيفة أن إسرائيل أكدت أنها دمّرت جميع المواقع البحثية التي أعادت إيران تشغيلها في إطار برنامجها النووي ذي الاستخدام المزدوج، ومن أبرزها موقع "سانجاريان"، الذي كان قد استخدم في أوائل العقد الأول من الألفية من قبل علماء البرنامج القديم لتطوير تقنيات مرتبطة بالمتفجرات، وفقًا لما ورد في أحدث تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وتُظهر صور أقمار صناعية أن أعمالًا هندسية وبحثية أُعيد إطلاقها في هذا الموقع اعتبارًا من سنة 2022، بعد سنوات من التوقف.
في نهاية حزيران/ يونيو، شنت إسرائيل هجومًا على مقر "منظمة الابتكار والبحوث الدفاعية" الواقع في حي "آراج" وسط العاصمة طهران. كما استهدفت موقعًا حديث الإنشاء يعود لسنة 2013، يقع داخل مركز ترفيهي تابع لوزارة الدفاع الإيرانية، ما أسفر عن تدمير جزئي لهذا الموقع في منتصف حزيران/ يونيو.
أما المبنى الأقدم، المعروف بـ "لافيزان 2"، فقد كان يضم معهدًا للفيزياء التطبيقية وشركة شهيد كريمي"، وكلاهما يخضعان لعقوبات بسبب علاقتهما بالبرنامج النووي. ودُمّرا في 15 حزيران/ يونيو وكانا يحتويان، بحسب الجيش الإسرائيلي، على مختبرات لتطوير السلاح النووي. وتقع هذه المواقع قرب جامعة مالك أشتر، وهي أيضا خاضعة للعقوبات.
وتفاخر جيش الاحتلال الإسرائيلي أيضا بأنه دمر المصنع الوحيد في إيران لتحويل اليورانيوم الغازي إلى معدن، وهو مكون أساسي للقنبلة. وبُني هذا المصنع سنة 2004 في قلب منشأة أصفهان، ودُمر في 14 حزيران/ يونيو حسب صور أقمار صناعية. وتوالت بعدها ضربات إسرائيلية وأمريكية دمرت المباني المحيطة.
ونقلت الصحيفة عن ديفيد أولبرايت، رئيس معهد العلوم والأمن الدولي في واشنطن، أن "إسرائيل تدعي أنها دمرت جميع أرشيفات "منظمة الابتكار والبحوث الدفاعية" ، التي كانت مخزنة في مقرها الرئيسي. وكان
الموساد قد استولى في 2018 على جزء من هذه الوثائق من مخزن بطهران. ووفقًا للسفير الإسرائيلي لدى باريس جوشوا زاركا، فإن النسخة الأخيرة التي كانت لدى إيران دُمّرت في غارات شهر حزيران/ يونيو، إلى جانب وثائق الأبحاث الحديثة.
الزاوية المظلمة
وذكرت الصحيفة أن إسرائيل تعترف بوجود "زاوية مظلمة" في مراقبة البرنامج النووي الإيراني، لكنها تؤكد ثقتها الكاملة في جهاز استخباراتها.
يقول السفير الإسرائيلي في فرنسا، جوشوا زاركا: "لن نستهدف كل الفيزيائيين الإيرانيين، فهؤلاء الأشخاص لم يُقتلوا بسبب معرفتهم بالفيزياء، بل لأنهم كانوا متورطين بشكل مباشر في تصميم وصناعة سلاح نووي".
وبحسب زاركا فإن الضربات الإسرائيلية لم تقتصر على العلماء فحسب، بل شملت أيضًا من اتخذوا قرارات إعادة تفعيل الجانب العسكري من البرنامج النووي، مؤكدا أن "كل من شارك في اتخاذ القرار لإحياء البرنامج العسكري تمّت تصفيته"، مشيرًا إلى أن بين المستهدفين عدة أعضاء في المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني.
وتوضح الصحيفة أن إسرائيل لم تنشر أي دليل على إعادة تنظيم "منظمة الابتكار والبحوث الدفاعية"، أو على حجم الخطر الذي كانت تشكله. لكن أحد المطلعين على البرنامج النووي في إسرائيل يذكّر بأن القرار النهائي لتصنيع القنبلة يعود للمرشد الأعلى علي خامنئي، الذي استبعد ذلك صراحة منذ التسعينيات.
اظهار أخبار متعلقة
النظام الإيراني في مأزق
وأوضحت الصحيفة أن هذا الغموض يثير قلق الأوروبيين خاصة في ظل انسحاب إيران من التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي اضطرت إلى سحب جميع مفتشيها من البلاد.
يقول دبلوماسي غربي: "كان الاتفاق النووي لسنة 2015 يمنح قدرًا غير مسبوق من الشفافية. أما الآن، فقد ضحّت إسرائيل بجزء من شبكتها الاستخباراتية لتنفيذ هذه الضربات. والإيرانيون ينفذون عملية تطهير داخلية".
وتابعت الصحيفة القول إن إسرائيل لا تخفي نواياها، فهي وإن كانت تؤيد عودة المفتشين والمفاوضات مع واشنطن، إلا أنها جاهزة لشن ضربات جديدة، دون تحديد عتبة معينة. تسمي هذه الإستراتيجية "قص العشب" أي قصف متكرر لإضعاف العدو دون تدمير قدراته تماما، وقد استخدمتها في غزة من سنة 2007 حتى سنة 2023، ومنذ سنة 2024 في لبنان وسوريا.
وفي ختام التقرير تُشير الصحيفة إلى تصريحات علي لاريجاني، مستشار المرشد الأعلى، في شهر نيسان/ أبريل الماضي، والتي قال فيها إن إيران "لا تتجه نحو تصنيع الأسلحة النووية"، لكن إن تصرفت القوى الغربية بشكل غير مسؤول، فإن طهران "ستُجبر" على إعادة النظر.