كتاب عربي 21

ماذا يعني أن تغتال الإبادة الصحفي حسين اصليح؟!

ساري عرابي
"يُقصف حسن مرتين في المستشفى، يصاب في الأولى ويستشهد في الثاني"- إكس
"يُقصف حسن مرتين في المستشفى، يصاب في الأولى ويستشهد في الثاني"- إكس
حتى آخر لحظة من حياته قبل استشهاده، كان الصحفي الفلسطيني حسن اصليح ينقل أخبار حرب الإبادة الجماعية على غزة وضحاياها؛ تحليق الطيران الإسرائيلي، وقصفه، والقصف المدفعي، وأعداد الشهداء الفلسطينيين، بعد قليل صار حسن واحدا من هؤلاء الشهداء، انضم إليهم صباح اليوم وهو يتشافى داخل مجمع ناصر الطبي؛ من إصابته حينما استهدفت حرب الإبادة خيمة الصحافيين في مستشفى ناصر في شهر نيسان/ أبريل الماضي.

يُقصف حسن مرتين في المستشفى، يصاب في الأولى ويستشهد في الثاني. ماذا يلاحق الاحتلال، والحالة هذه؟! يلاحق المستشفيات والصحافيين، تلك المستشفيات لا تؤوي أسرى إسرائيليين، وهؤلاء الصحافيون لا يفيد قتلهم الإسرائيليين أيّ فائدة أمنية أو عسكرية، بيد أنّه لا ينبغي أن يتوقع عارف بهذا الاحتلال شيئا آخر، وبينما هذه هي الحقيقة الوحيدة الظاهرة من غبار الحرب المسعورة على غزة، حرب الموت والنار والجوع والدمار والعطش والنزوح المستمر في العراء، في مساحة ضيقة لا تزيد على 365 كيلومترا مربعا، بحيث لا مهرب ولا مخرج لهؤلاء الناس؛ فإنّ البعض لا يرى من هذه الحقيقة إلا تصفية حساباته النفسية، بالبحث عن مكان يصلح لأن يطعن منه غزيين آخرين ظلوا واقفين على أقدامهم يواجهون هذه الحرب. على جثث هؤلاء الناس، الأشبه بفلسطين، تتراكم أطروحات التنظير عن صوابية مواقفنا السياسية، هكذا فقط يجد البعض سبيله للانتصار للناس، الناس العاديين، المحروقين بالنار الإسرائيلية!

القضية بالنسبة للإسرائيلي، ليست أنّه ممنوع عليك أن تكون صحافيّا حرّا صادقا منحازا إلى شعبك وملتحما بهم فحسب، يبدو أنّه ممنوع عليك وجودك، ممنوع أن تحيا

هل كان حسين اصبيح يتوقع بدوره شيئا آخر؟! انتظار الموت هو معنى الحياة للغزيين الآن، وتوقع فقْد الأصحاب والمعارف هو الأكثر حضورا وتداولا، والأكثر حصولا وتحققا، وعلاوة على هذا الوجه الغزي الأصيل، الذي لا يدلّك شيء على معنى المأساة الفلسطينية مثله، فإنّ خلف كلّ وجه حكاية إنسان، لم يقتل الاحتلال حياته فقط، ولكن دفن معه كلّ شيء اختلج في نفسه. هذا شاب فلسطيني، لم يغادر غزة، ولم ينزوِ في مكان داخلها يبحث عن النجاة، ولم ينغمس في التنظير، ولكنه لاحق بكاميرته معاناة شعبه وأهله، وجعل من حضوره على مواقع التواصل الاجتماعي المصدر الأوثق لأخبار الغزيين في غمرة المذبحة والمجاعة، وهو لم يكن يبني شهرته على لحمهم المحروق وعظامهم المسحوقة، بل كان يضمّ لحمه إلى لحمهم وعظمه إلى عظامهم، ليدفع ثمن شهرته ملاحقة بالقصف، إلى حين استشهاده.

يبدو أنّ القضية بالنسبة للإسرائيلي، ليست أنّه ممنوع عليك أن تكون صحافيّا حرّا صادقا منحازا إلى شعبك وملتحما بهم فحسب، يبدو أنّه ممنوع عليك وجودك، ممنوع أن تحيا. يتكشف هذا الغيظ من وجود مجموعة بشرية أخرى بالإبادة والتجويع، وتحقق هذا الغيظ من الوجود الفلسطيني في غزة بهذا النحو، لا ينبغي أن يلغي الدهشة والحيرة من درجة هذا الغيظ ومستويات تحققه، إذ ماذا تبقّى لتدميره؟ وكم ينبغي أن يقتل من الغزيين ليشفى هذا الغيظ؟! لا يمكن قبول التصالح مع استمرار حادثة الإبادة اليومية للغزيين المحشورين في هذا الساحل الضيق لليوم 585، ولا يدري أحد كم ستمتد أكثر، فإن وجد أحدنا نفسه قد اعتاد على ذلك،
ينضم حسن إلى عدد غير معروف من الصحافيين قبله، كما ينضم إلى عدد غير معروف من الفلسطينيين الأكثر نجاحا وتضحية وإصرارا على البقاء بين أهلهم وناسهم بالرغم من مواهبهم ومهاراتهم، وينضم إلى عشرات الآلاف الذين دُفنت معهم حاجاتهم، وطموحاتهم، وأحلامهم، وأمانيهم
ولا يتحسس الخزي والعار في نفسه، وعبثية حياته إن استمرت على حالها، فعليه أن يرثي نفسه قبل رثائه للغزيين، بيد أن رثاء عن رثاء يختلف، رثاء نفس ماتت الحياة فيها بالعار، ليس كرثاء نفس قُتِلت في موقف بطولة، أو طحنها القصف والجوع والمرض وبرد العراء وحرّه.

ينضم حسن إلى عدد غير معروف من الصحافيين قبله، كما ينضم إلى عدد غير معروف من الفلسطينيين الأكثر نجاحا وتضحية وإصرارا على البقاء بين أهلهم وناسهم بالرغم من مواهبهم ومهاراتهم، وينضم إلى عشرات الآلاف الذين دُفنت معهم حاجاتهم، وطموحاتهم، وأحلامهم، وأمانيهم. ألا يحق لهذا الصحفي أن يحلم بفرصة مهنية أفضل؟ كم من غزي عرفناه، وكان يتحدث عن مجموعته القصصية القادمة، وروايته، ودراسته العليا التي يخطط لها، ومستقبله المهني الذي يسعى إليه، وكم من مهندس وطبيب، وسوى ذلك من أصحاب المهن والمهارات أخذتهم الحرب، وكم من نفس طيبة خدومة معطاء ذهبت بها الحرب، وكم من ضحكة طفل وطفلة بشرت بجمال إنساني قادم قطفتها قذائف الإبادة قبل أن تتحقق بشراها؟!

ممنوع على الغزي أن يكون ذلك كله، ممنوع أن يحلم، وممنوع أن تتحرك في صدره الأماني، وعلينا أن نعيش حياة حالمة مفعمة بالسعي لتحقيق أحلامنا وطموحاتنا! علينا أن نموت كمدا لا لأجل أخينا الغزي؛ ولكن لأجل ضياع فرصة هنا، وظهور عقبة هناك! يا للعار!

x.com/sariorabi
التعليقات (0)

خبر عاجل