حين يتذكر
الفلسطيني نكبته، التي ورثها عن آبائه وأجداده
بعد 77 عام، اوما أحدثه قيام كيان صهيوني استعماري استيطاني إحلالي فوق أرضه، فذلك
لا يعني توقفه عند تخوم
النكبة عام 1948، فالوعي التاريخي بجريمة اقتلاع سكان
فلسطين بالمذابح، وتدمير مدنهم وقراهم وطردهم خارج وطنهم، لم يدفع ضحايا النكبة إلى
دفن قضيتهم في مقابر شعارات
عربية أنجبت لهم هزيمة جيوشهم.. قاوَموا مُستعمرهم بكل
الوسائل الممكنة، ولأن القوس الصهيوني الاستعماري ظل مفتوحا على مزيد من
الاحتمالات، التي تجاوز بعضها سردية شفوية عما حصل لهم ولآبائهم وأجدادهم، على يد
العصابات التي أسست كيان إبادتهم، أصبح هناك فهمٌ أسهل للنكبة، لما سُجل عن وقائع أحداثها
وتفاصيلها، وتقديم أجوبة لأسئلة: كيف حدث كل ذلك؟ وكيف يستمر ويتكرر في أيامنا وسنواتنا
فعل النكبة؟
لعل ما نعايشه في زمن عربي وفلسطيني يحمل كثيرا من فجاجة
الأجوبة، خصوصا منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، فنحن جميعا لا نراقب نكبة
فلسطينية لعمل "فلاش" باك لذاكرة المنكوبين الجماعية، فأبناء وأحفاد
هؤلاء فهموا درس الخذلان التاريخي لهم ولأرضهم وقضيتهم منذ واقعتي النكبة 48 والهزيمة
العربية عام 67، بل نتابع مجريات إبادة جماعية وجرائم حرب وضد الإنسانية في
غزة
لضحايا النكبة الأولى ونسلهم، وما يجرب في بقية مدن الضفة والقدس من سيناريوهات ما
بعد النكبة في العصر الحالي؛ يمكن اعتبارها اختصارا لكل تفاصيل الأجوبة التي
ساقتها سردية أبناء النكبة.
نتابع مجريات إبادة جماعية وجرائم حرب وضد الإنسانية في غزة لضحايا النكبة الأولى ونسلهم، وما يجرب في بقية مدن الضفة والقدس من سيناريوهات ما بعد النكبة في العصر الحالي؛ يمكن اعتبارها اختصارا لكل تفاصيل الأجوبة التي ساقتها سردية أبناء النكبة
فالحركة الصهيونية لم تغير مبادئها وأهدافها لإبادة شعب
فلسطين، عملها على الأرض يجري وفق مخطط الآباء المؤسسين لفاشية صهيونية تتجسد كل
يوم أمام سمع وبصر مجتمع دولي تُنتهك كل قوانينه وأعرافه وتشريعاته.
في سياق كل ذلك، يطرأ تبدل بالمواقف من هذه الفاشية، ومن
جرائم الإبادة الجماعية، خصوصا عند النظام العربي الرسمي الذي كان لسياساته من
قضية فلسطين وشعبها دور أصيل بدوام النكبة، وشاهد زور في مواكبة أحداث الإبادة في
غزة، والتي سبقها قبول ما كان مرفوضا لفظيا، من سلوك ووجود حركة استعمارية
استيطانية بالانتقال من حالة الرفض اللفظي لها إلى الاستعداد للتطبيع والتحالف
معها؛ انطلاقا من نبذ وحصار وشيطنة كل أفعال ضحايا الفاشية من شعب فلسطين، ونعتهم مع
مقاومتهم بأوصاف تلائم جاهزية النظام العربي للاستسلام الكلي أمام الحركة
الصهيونية، ومحاولة فرضها على الشعب الفلسطيني كقدرٍ لا مفر منه.
استبدال ما تردد على ألسنة أجيال فلسطينية وعربية، من
مؤامرة سهلت نكبة فلسطين، إلى معانٍ أقسى بالتواطؤ والمشاركة بجرائم الإبادة
الجماعية، تفسر بما يُنقل عبر شاشات عربية، وبشكل مباشر، من أخبار تزويد سفن
الاحتلال بالمؤن، ونقل السلاح والغذاء والوقود له من مطارات وموانئ وحدود عربية،
في الوقت الذي ترتكب فيه
إسرائيل جرائم حرب وتجويع ضد الفلسطينيين تحصد مئات
الضحايا يوميا، وهذا يُعد أحد النجاحات الكبرى للحركة الصهيونية بعد 77 عاما على
جريمة النكبة الأولى.
فتكفي إشادة نظام عربي بقوة إسرائيل على أنها "عامل
قوة إيجابي" لعلاقة نظامه بالمؤسسة الصهيونية، ليتضح بأن من يحمي جرائم
الإبادة هو نفسه الذي حمى النكبة الأولى، ويدفع باتجاه شيطنة كل ما يتعلق بثوابت
الفلسطينيين من التمسك بأرضهم ومقاومتهم لمحتل غاصب، إلى تحميلهم مسؤولية كل هذا
الإخفاق والعجز العربي، وبأنهم السبب لكل ما يجري لهم، لرفضهم الاستسلام كليا
للمشروع الصهيوني وعدم الانصياع لنصيحة عربية بقبول أي شيء يُطرح عليهم ويُبقيهم
على قيد الحياة تحت الرحمة الصهيونية،
اتساق الخذلان لم يتبدل في مشهد غزة وفي ما تبقى من أرض فلسطين، التي يعيد شعبها أسئلته في زمن تعاقب النكبة والإبادة الجماعية عليه، لأنظمة عربية تتبرع بصكوك الغفران للمحتل بخطاب وسلوك تنقصه مبادئ الحرية والعدالة والشهامة والغضب التي تضاعف من محنته، وهي مؤشرات تعيدنا في واقع الأمر للأداء العربي والفلسطيني، التي تتناسق كلها مع عناصر التوجه الإسرائيلي الذي يكاد يتخذ عنوانا رئيسا وحيدا في هذه الفترة؛ القضاء على المقاومة وتنفيذ التطهير العرقي في غزة، وضم كل الأرض الفلسطينية
على اعتبار أن الكلفة العربية مرهقة للنظام
العربي، وأصبحت موضع تمنين ومزايدة على ضحايا النكبة، فإن الهروب للأمام في سياسات
عربية من مسؤوليات تاريخية ومصيرية هي التي تتصدر المشهد اليوم.
منذ 17 شهر، لم يَعدم ضحايا النكبة الفلسطينية في غزة وسيلة
لاستنهاض همم وشهامة عربية، لا للدفاع عنهم بل لمدهم بوسائل الحياة البسيطة ولكسر
الحصار والضغط لوقف إبادتهم، لكن كل ذلك فشل، كما فشلت كل المحاولات التي أعقبت
النكبة الفلسطينية لجعل قضية فلسطين قضية عربية بشكل فعلي وخارج مقبرة الشعارات
المرتبطة بها. ونتذكر هنا في أي سياق كان الخطاب الأخير للشهيد عبد القادر الحسيني
وهو يتصدى للعصابات الصهيونية على تخوم القدس عام 48 في معركة القسطل، وفي خطابه
لقادة جيش الإنقاذ العربي وكيف سُخِر من مطلبه وخطابه، وبقيت صرخات عجائز فلسطين
وأطفالها ونسائها تصدح بنداءٍ أخير لإيقاظ ضمائر زعامات عربية كل يوم وساعة يواجه
فيها الفلسطينيون عدوان العصابات الصهيونية منذ القسطل وحتى غزة.
يشير كل تفصيل أخير من حياة ضحايا الإبادة الجماعية في
غزة، للتذكير بوقائع النكبة وخذلان شعب فلسطين فحين يصدح فلسطيني في غزة "رغيف
خبز يا مصر"، ويسمع العالم استغاثة الطفلة هند رجب واستهدافها مباشرة، ويشهد
العالم قتل الصحفيين وعمال الإغاثة، وتدمير القطاع الصحي والمدارس، وتحطيم كلي
لحياة الفلسطينيين في غزة، وينتشي الفاشي المأفون بتسلئيل سموتريتش برغبة صهيونية
بإعادة احتلال غزة والاستيطان فيها وطرد سكانها، فذلك يعني أن التفصيل الذي جاء في
رسالة الحسيني قبل 77 عاما بطلب المدد العربي ثم التعبير عن غضبه من الخذلان؛ يعني
أن اتساق الخذلان لم يتبدل في مشهد غزة وفي ما تبقى من أرض فلسطين، التي يعيد
شعبها أسئلته في زمن تعاقب النكبة والإبادة الجماعية عليه، لأنظمة عربية تتبرع
بصكوك الغفران للمحتل بخطاب وسلوك تنقصه مبادئ الحرية والعدالة والشهامة والغضب
التي تضاعف من محنته، وهي مؤشرات تعيدنا في واقع الأمر للأداء العربي والفلسطيني،
التي تتناسق كلها مع عناصر التوجه الإسرائيلي الذي يكاد يتخذ عنوانا رئيسا وحيدا
في هذه الفترة؛ القضاء على المقاومة وتنفيذ التطهير العرقي في غزة، وضم كل الأرض
الفلسطينية وجعل الفلسطيني معزولا ودون أي إسناد ولو نظري..
x.com/nizar_sahli