نعيش أياما ثقيلة على النفس، كأننا تحت وطأة جاثوم مفترس لا يرحم، بينما نحن مكبلون بقيود نشعر بها ولا نراها، تؤلمنا بشدة ولا نملك طريقة للتحرر منها.
المأساة لا تنحصر في
غزة وما يحدث فيها من إبادة علنية للحجر والشجر والبشر، وكل ما يراه مغول العصر معبرا عن الهوية الفلسطينية، المأساة فينا.. في وضعنا تحت الأسر وشد جفوننا باتساع العيون ليفعلوا كل هذا تحت بصرنا..
إبادة وتنكيل وإذلال، وسؤال يحوم فوق الرؤوس كالنسر الذي سلطته آلهة الأوليمب لينهش كبد بروميثيوس بلا توقف: هل لديكم رد على هذا؟
أشكر كل من يتضامن ويتظاهر ويعترض على التوحش المدعوم من رأي العالم الغربي، وأغبط كتاب المقالات المؤدية للمقاومة، وأنحني خجلا واحتراما لصبر وبطولة الشعب الفلسطيني الذي يتمسك بالحياة وهو يغرق في أعماق نهر من الحديد المنصهر، لكن هذا كله لا يعفي الروح من العذاب المميت، ولا يشفي العقل والفكر والبدن من الشلل ومهانة العجز.
إسرائيل لا تكتفي بقصف المباني، إسرائيل تقصف المعاني، تتعمد أن تصيب أرواحنا وأفكارنا عن الحق والأوطان والكرامة والنخوة
توقفت منذ عدة أشهر عن الكتابة، وتقريبا عن الكلام بكل أنواعه في الشأن العام مصريا وعربيا ودوليا، ولم ينفعني الصمت، بالعكس زادني الصمت ألما وعجزا، ولما عدت لاجئا إلى الكلام، لم أجد ما يفيد.. لم أجد ما يريحني أو ينفع المعذبين..
إسرائيل لا تكتفي بقصف المباني، إسرائيل تقصف المعاني، تتعمد أن تصيب أرواحنا وأفكارنا عن الحق والأوطان والكرامة والنخوة..
إسرائيل لا تدمر غزة وحدها، إسرائيل تدمر الكيان الإسلامي والعربي وتخرب أرواح الملايين الذين يشاهدون ما يحدث ويواصلون حياتهم ببرامجها النمطية: يفندون أنواع الطعام والشراب، ويناقشون مصائر أبطالهم في الأفلام والمسلسلات الدرامية، ويدلون بآرائهم في الإعلانات الاستهلاكية وبرامج المقالب، ويختلفون على"حماس"، ويتحدث "العقلاء" منهم عن أعباء الحرب وضرورة الحفاظ على الحياة: قبل أن تحارب لا بد أن تفكر في حياة شعبك!
كيف؟! (يسألهم إنسان حسن النية)..
فيردون: لا تحارب!
والأرض؟!
والحق؟!
والهوان الذي نتعرض له كل يوم؟!
والمقدسات الأسيرة؟!
والكرامة؟!
تسألهم طالبا إجابة، فيهرتلون بكثير من الكلمات عن حياة الناس، وفوائد التريث وضبط النفس وانتظار ما لا نفعل من أجله شيئا..
تتذكر موالا شهيرا من التراث الفلسطيني فتغني متجاهلا أصحاب العقول الباردة والنفوس المتبلدة:
ياما مويل الهوا/ ياما مويل الهوا ياما مويليا/ ضرب الخناجر ولا حكم النذل بيا/ مشيت تحت الشتا والشتا رواني/ والصيف لما أتى ولع من نيراني/ بيضل عمري انفدى ندر للحرية/ يا ليل صاح الندى يشهد على جراحي/ وانسل جيش العدا من كل النواحي/ والليل شاف الردى عم يتعلم بيا/ بارودة الجبل أعلى من العالي/ مفتاح درب الأمل والأمل برجالي/ يا شعبنا يا بطل أفديك بعينيا، ياما مويل الهوا مويليا..
وأختتم صمتي بعبارة قصيرة أعتبرها الحد الفاصل بين حياة الكريم وحياة الخسيس: "موت كريم أفضل من حياة ذليلة"..
وفي المقال المقبل أستأنف
المقاومة، ولو بالكلام، فالمقاومة مهما ضعفت خير من العجز وسجن الروح..
أعزكم الله ورحم شرفاء الأمة المكلومة..
[email protected]