كتاب عربي 21

ممداني.. مشروع تغيير من الداخل

"لم يوهنه أنه مهاجر حادث على المكان المملوك للسابقين عليه، فلم يشعر بعقدة نقص أو تظهر عليه هزيمة داخلية"- جيتي
قلعة الرأسمالية لم تنهر من الخارج، لكن بنيتها الداخلية تتشقق وتنذر بانهيار. وانهيارها أُمنية مقهورين، لكن الإفراط في التفاؤل بخرابها مضر بالصحة العقلية. بين الإحباط المطلق من عدم حدوث أي تغيير، والتواكل المطلق على تغيير يحدثه أشخاص استثنائيون؛ نذكر بأن كل مقهور مكلف بمعركته حيث هو. غير أننا لا نفوت فرصة التقاط مؤشرات على تغيير عميق تعود بعض أسبابه إلى الربيع العربي وبعضها أو جلها قادمة من روح الطوفان التي بُثت في العالم كتيار تغيير عميق لن يقف مداه على انتخاب عمدة نيويورك، لكن مشغلتنا العربية تتقدم على ما عداها.

استبشرت فيالق الإسلاميين المنتشرة في السوشيال ميديا بانتصار زهران ممداني، وذكَّروا في كل منشور بأنه مسلم وأن زوجته عربية (مسلمة ضمنا)، ويُستشف من منشورات سمعية بصرية وكثيرا من مكتوب اطلعنا عليه؛ أنهم يعولون على فاتح مسلم سيقود معركة فتوحات في نيويورك! وقد وجدنا أن هذا الاستبشار يحمل في طياته تعلق كل غريق مقهور بكل قشة ممكنة، كما يحمل بالتوازي نوعا من التواكل السياسي الكسول على نتائج معركة لا يشارك فيها المتحمس للنصر الانتخابي، بل يسيء فهمها وينتظر غلتها في سلته.

نرى أن نصر ممداني ومسؤولياته مقتصرة على إدارة مدينته وتقديم صورة مسؤول شاب معني أولا بقضاياه المحلية، لذلك فإن أجمل خدمة يقدمها لاسمه وأصله (المسلم) هي بناء صورة مسؤول جدي ومثابر وواقف عند حدود مسؤولياته التي انتُخب من أجلها

نرى أن نصر ممداني ومسؤولياته مقتصرة على إدارة مدينته وتقديم صورة مسؤول شاب معني أولا بقضاياه المحلية، لذلك فإن أجمل خدمة يقدمها لاسمه وأصله (المسلم) هي بناء صورة مسؤول جدي ومثابر وواقف عند حدود مسؤولياته التي انتُخب من أجلها. فإذا أفلح في بناء هذا المسار حيث هو، فإن النتيجة ستكون كسر الصورة النمطية المبنية بأكثر من قرنين من الامتهان لصورة المسلم الغبي الجاهل؛ الذي لا تربطه رابطة بإدارة الدول والمدن ورعاية شؤون منظوريه ضمن نظام ديمقراطي، وهي الصورة التي أعيد ترسيخها بالانقلاب على الربيع العربي تحت يافطة عجز الإسلاميين عن إدارة دولهم. لذلك نهمس للفيالق المتحمسة: لن يكون ممداني خالد بن الوليد آخر! لكن يمكننا النصح بأن يتعلم الإسلاميون من ممداني كيفية إدارة المدينة دون عقلية فُتوح وبشارات ربانية.

الأمر في نيويورك ليس كما هو في القاهرة أو تونس، إن معركة ممداني هي معركة داخل القلعة الأمريكية لتحسين شروط العيش فيها لمن أهدرهم السيستم الرأسمالي المتوحش، وحتى موقفه منى فلسطين هو موقف كل عامل بالقانون لا يتخذ غيره وسيلة، لذلك لا يجب تحميله مسؤولية تحرير فلسطين، إنها ليست مهمته.

من أين جاء ممداني؟

جاء الفتى الوسيم من شعار "الشعب يريد إسقاط وول ستريت". هذا الشعار سار به المقهورون في نيويورك ونطقوه بعربية عجماء، وقد دل رفعه هناك على تراكمات كثيرة وثقيلة صنعتها سياسات رأسمالية متوحشة محقت الشعوب حيث ما وصلت يدها، ولم يكن وول ستريت إلا رمزا لها، وإسقاط الرمز كان مفتاح إسقاط الجسد الذي يستند عليه. لم تظهر استجابة فورية للشعار فظل التراكم يشتغل تحت الأرض وربما ضاعف سرعته، وكان انتخاب ترامب بشعارات اجتماعية أملا كاذبا فضاعف الوعي بالحاجة إلى التغيير العميق، لقد احتال ترامب على الشارع (بأمريكا أولا وفيها بُعد شعبي، وتبين أنها شعبوية تحتقر هموم الناخب المقهور).

من مدخل آخر مكمل للشعار الأول لم يكن إسناد الكيان في حربه التدميرية على غزة إلا فقرة من سياق تاريخي طويل سارت عليه السياسة الأمريكية دون أي فرق بين جمهوري وديمقراطي، وكانت النتيجة انكشاف جوهر هذه السياسة؛ لا لجهة اعتدائها على شعب بريء في بيته الفقير فحسب، بل -وهذا مهم جدا للناخب الأمريكي- أن تلك الحرب كانت تموّل من أموال الناخب التي تنتزع منه بقوة الدولة. جل ما وصلنا من خطاب المؤثرين الأمريكيين كان يبدأ من نقطة تمويل الحرب بأموال دافع الضرائب الأمريكي، وهنا كانت نقطة التحول في الوعي وفي الخطاب وكانت أكثر تأثيرا من الصور المفزعة القادمة من غزة. الأكثر وعيا بالحقوق قال: نحن من هنا نشارك في القتل هناك.

كانت هاتان المَشغلتان بوابة دخول زهران ممداني، لقد التقط الخيط الرابط بين إسقاط وول ستريت وإسقاط تمويل الحرب الظالمة (كانت البورصة تمول الحرب) وطرح بديله بوضوح وبساطة: تحسين الوضع المعيشي لساكن مدينة مقهورة. وسيسجل التاريخ الذكاء الواقعي للرجل في اللحظة التي تتحول إلى مفصل تاريخي، وهو ما لم يلتقطه إلا قليل من المنتظرين للفاتح العظيم.

دروس ممداني للشوارع العربية

بعد مشاركة ممداني نصره وللناس حق الجيَشان العاطفي؛ نطرح السؤال: ماذا يمكن أن نتعلم من ممداني المنتصر؟

الدرس الأول، أن القلاع الحصينة يمكن أن تؤخذ من الداخل. وقد كانت هذه الفكرة تعني الخيانة (على مذهب ابن العلقمي)، لكن درس ممداني أن التغيير حق ممكن وليس خيانة، وهذه ثمرة مباشرة لديمقراطية راسخة. فيصبح الدرس هو العمل على بناء الديمقراطية لترسيخ فجوات التغيير من داخلها دون انتظار نجدة من الخارج، على طريقة المعارضات العربية منذ تأسست الدولة العربية القمعية. وبالنسبة للشاب الإسلامي المتحمس فإن الأولويات بعد ممداني ترتب كما يلي: السعي إلى الديمقراطية مقدم بالقوة على السعي إلى الأسلمة الشكلية، أي أن الدخول على الناس من باب مصالحهم الحيوية (المعيشية) مقدم على دعوتهم إلى المساجد، فالناس يكتشفون الطريق إلى المساجد بعد تحقيق الشبع.

رفع الرجل شعاراته وتحدث بها مع الناس، ولم يرتبك أمام التهديد بالعسكر أو بقطع التمويل، ولم يوهنه أنه مهاجر حادث على المكان المملوك للسابقين عليه، فلم يشعر بعقدة نقص أو تظهر عليه هزيمة داخلية

الدرس الثاني، هو الانتباه إلى شجاعة ممداني وجرأته في اللحظات الحاسمة. لقد رفع الرجل شعاراته وتحدث بها مع الناس، ولم يرتبك أمام التهديد بالعسكر أو بقطع التمويل، ولم يوهنه أنه مهاجر حادث على المكان المملوك للسابقين عليه، فلم يشعر بعقدة نقص أو تظهر عليه هزيمة داخلية. لقد وضع خصمه (الترامبي) أمام حقيقة جديدة، لقد جعل التعسف العسكري على فوز ديمقراطي يُسقط من يستعمل العسكر لا من يُستعمل ضده، والغصة الآن في حلق ترامب لا في حلق ممداني.

ولقد علمنا دوما أن أنظمة ونخبا عربية كانت تخشى موقف الغرب منها حتى قبل أن تنطق جُملها وتحولها إلى فعل. وكانت أوضح صور ذلك ارتباك الإسلاميين الذين وصلوا بالانتخابات بعد الربيع العربي، فظلوا يتحسسون الموقف الغربي من سياساتهم وراعوا له حقوقا ليست له وإنما هي إرهاب مسلط، وقد علم الغرب خوفهم فضاعفه فتسلط.

أظهر ممداني قوة قصوى في خطاب الفوز: لن اعتذر عن شعاراتي ولن أتراجع عن مشروعي (ولو كانت عربيته متينة لقال للسيستم أعلى ما في خيلك اركبه). لقد نقل الارتباك والخوف إلى صف خصومه فهم في ضنك شديد؛ كل حركة غير ديمقراطية ضده ستنقلب عليهم. وهو في موضع من يمد رجله ويوسع أطروحته الاجتماعية التي وصل بها إلى السلطة، ولديه علم (كما نتوقع) بشارع أميريكي ينتظر نجاح نيويورك الاجتماعي لينسج على منوالها، فالأرض مهيئة لزرع نموذج انتصاره في بقية المدن المقهورة.

بقيت لنا إشارة أخيرة (وهي الدرس الثالث) ليسار عربي منحه الربيع العربي؛ فرصة عبقرية ليكون يسارا اجتماعيا منسجما مع أطروحاته المؤسسة، فانصرف عنها إلى عراك أيديولوجي مع الإسلاميين انتهى بتخريب التجربة الديمقراطية التي وعد بها الربيع العربي. لقد عشنا مع هذا اليسار وهو ينصرف إلى قضايا المثلية وقضايا النوع الاجتماعي على طريقة سيمون دي بوفوار، حيث الرجل ذكر وحشي معاد للمرأة الملاك، فصارت الصراعات بقيادة اليسار العربي تدور حول حق المرأة في تعرية جسدها في الشارع قبل حقها في تدبير عيش كريم بأجر محترم. لدينا يقين بأن هذا اليسار لن يرى يسارية ممداني الظافرة من قلب قلعة الرأسمالية المتوحشة.

أخيرا، إذا كان الإسلاميون سيبحثون في ممداني عن خالد بن الوليد، فإن اليسار العربي سيبحث فيه عن تشي غيفارا. وتظل المعارك المحلية خارج التاريخ السائر بجرأة ممداني وشجاعته لا بكسل النخب العربية المتواكلة على ديمقراطية تنتج قوة التغيير من الداخل وتتقدم.

نختم بواقيعة مرة: ممداني العربي سيتأخر كثيرا حتى يغيّب التاريخ النخب التي أفشلت الربيع العربي.