قضايا وآراء

ميزانية تونس 2026.. اقتصاد الجباية والقروض.. والقمع

يفسر الخبير الاقتصادي رضا شكندالي اللجوء المفرط إلى الاقتراض الداخلي، الذي يخنق الاستثمار، بانسداد أبواب التمويل من الخارج.. الأناضول
من مفارقات السياسة في تونس تحت حكم الرئيس قيس سعيد أنه بينما تتزايد قبضة دولة الرجل الواحد على التونسيين، تزج في سجونها بمعارضين من مختلف العائلات السياسية، بحجج التآمر لقلب نظام الحكم، وترهب المدونين، فتحكم بالإعدام على مدون لمجرد تدوينة على وسائل التواصل الاجتماعي، يتزايد تعويلها في تمويل ميزانية الحكومة وأجهزتها الأمنية والعسكرية على دافعي الضرائب.

فبأموال الناس تتعزز قوة قهرهم، على خلاف العرف في الدول الديمقراطية، حيث يعتبر رجل السلطة أجيرا عند دافع الضرائب، من حقه مراقبته وعزله إذا أساء استخدامها، عبر برلمانات منتخبة، تمثل المواطن وتراقب رجل السلطة وأجهزتها، وتحجزها عن الظلم وسوء التصرف في المال العام. أما في تونس قيس سعيد فبقدر تعويل الدولة على دافعي الضرائب لتمويل نفسها وأجهزتها بقدر ما تمعن في انتهاك حق هذا المواطن وخنقه وقهره.

مفارقة أخرى صارخة أنه بينما تتكاثر خطابات الرئيس سعيد عن الدولة الاجتماعية الراعية للفقراء وضعاف الحال، تتقلص ميزانية الدعم الموجه للفقراء، وتغرقهم سياسات الدولة الاقتصادية في التضخم وضعف قدرة الدينار الشرائية، فتتقلص الطبقة الوسطى، وتكبر طبقة الفقراء كل عام، وتكبر جماعة البرباشة، الذين باتوا يعيشون على ما يحصلونه من المزابل.

وبينما يؤكد الرئيس سعيد باستمرار على أنه يخوض حرب تحرير وطنية، وأن على التونسيين التعويل على الذات، تمضي حكومته في المزيد من التداين الداخلي والخارجي لتمويل عجز ميزانيتها.

دولة الجباية والاقتراض

تقدر ميزانية تونس لسنة 2026 بـ 79.6 مليار دينار (نحو 27  مليار دولار) بزيادة 3 مليار دينار عن ميزانية 2025.

ويأتي تمويل هذه الميزانية من مصدرين رئيسيين:

ـ  الضرائب والموارد الجبائية بمبلغ 47.8 مليار دينار (أكثر من 60% من الميزانية) بزيادة 3.3 مليار دينار مقارنة بسنة 2025 (44.5 مليار دينار جباية)، ما يجعل قانون المالية للسنة القادمة قانون جباية بامتياز كما يقول الخبير الاقتصادي رضا شكندالي.

على عكس الشعارات التي يرددها الرئيس قيس سعيد باستمرار عن الدولة الاجتماعية والانحياز للفقراء وضعاف الدخل يرى الخبير الاقتصادي العربي بن بوهالي أن ميزانية تونس للعام 2026 "تأخذ من الفقراء وتعطي للأغنياء".
ـ  المصدر الثاني الكبير لتمويل الميزانية هو القروض، داخلية بمبلغ 19.9 مليار دينار، تؤخذ من البنك المركزي وباقي البنوك، وأخرى خارجية بمبلغ 6.1 مليار دينار، تتفاوض الحكومة مع صناديق دولية لإقراضها هذا المبلغ، ما يجعل الاستدانة المصدر الثاني لتمويل ميزانية حكومة التعويل على الذات، بنسبة تتجاوز 32% من مجموع الميزانية.

ويرى الخبير الاقتصادي عبد الباسط السماري أن اللجوء المفرط للقروض "في عمقه جرس إنذار"، ينذر ويحذر مما هو أسوأ. ويتجلى ذلك في أن "أكثر من ثلث ميزانية الدولة يُصرف اليوم لخدمة الديون لا لبناء الثروة.. نقترض لنُسدّد، ونُسدّد لنقترض من جديد". ويعتبر السماري أن الأخطر من التداين "الاعتماد المفرط على الدين الداخلي (أكثر من 55%) وهو يعني سحب السيولة من السوق البنكية، ورفع كلفة التمويل على المؤسسات، وبالتالي خنق الاستثمار الوطني".

ويرى السماري أن "ارتفاع الإيرادات الجبائية بنسبة 6,6% لا يُعَدّ مؤشّرًا على توسّع النشاط الاقتصادي، بل هو في جزء كبير منه انعكاس مباشر للتضخم وارتفاع الأسعار، ما يعني أن الدولة تجمع ضرائب أكثر من نفس حجم النشاط الاقتصادي، وليس بفضل زيادة الإنتاج أو التشغيل".

ويفسر الخبير الاقتصادي رضا شكندالي اللجوء المفرط إلى الاقتراض الداخلي، الذي يخنق الاستثمار، بانسداد أبواب التمويل من الخارج، معتبرا "التوجّه إلى التمويل الداخلي عوضا عن التمويل الخارجي ليس اختيارا بل كان اضطرارا، بعد قصور الحكومة على تعبئة الموارد الخارجية".

ويرى شكندالي أن ذلك "يفسّر بكل وضوح غياب الرؤية الاقتصادية والمالية للدولة، وأن سياسة الاعتماد على الذات ما هو إلا شعار أو رغبة أعلنها رئيس الجمهورية وفشلت الحكومة في تنزيلها على أرض الواقع (...) وكأنها غير مقتنعة بالتوجّه نحو سياسة الاعتماد على الذات، بمفهومها المنحصر نحو التوجه نحو الاقتراض الداخلي عوضا عن الاقتراض الخارجي".

إفقار الفقراء وزيادة ثروة الميسورين

على عكس الشعارات التي يرددها الرئيس قيس سعيد باستمرار عن الدولة الاجتماعية والانحياز للفقراء وضعاف الدخل يرى الخبير الاقتصادي العربي بن بوهالي أن ميزانية تونس للعام 2026 "تأخذ من الفقراء وتعطي للأغنياء". ويضيف أن "التضخم سيدمر حاضر الفقراء، والديون ستدمر مستقبلهم".

ويرى أن تمويل الميزانية بنحو 11 مليار دينار من البنك المركزي التونسي يتسبب في زيادة التضخم، عبر تراجع الدينار وخسارته لقدرته الشرائية. و"التضخم ضريبة خفية، وزيادة الضرائب تضر بالاستثمار والاقتصاد وقيمة الدينار". ويضيف أن "معدل التضخم في تونس، الذي بلغ 5.7%، مرتفع للغاية، وهو ضعف معدل شركائنا التجاريين في أوروبا البالغ 2%".

والنتيجة التي يراها لميزانية إفقار الفقراء وإغناء الأغنياء أنه "في النهاية ستُترك الحكومة والأسر (الفقيرة) بمستويات ديون عالية ومعدلات تضخم مرتفعة، ويُترك النظام المصرفي بأرباح كبيرة وثروة كبيرة". ويقول "انظر إلى بورصة تونس التي ارتفعت بنسبة 24٪ في ستة أشهر من هذا العام"، بينما انضم عشرات الآلاف من الأسر في ذات الوقت لطبقة الفقراء.

الأخطر من التداين "الاعتماد المفرط على الدين الداخلي (أكثر من 55%) وهو يعني سحب السيولة من السوق البنكية، ورفع كلفة التمويل على المؤسسات، وبالتالي خنق الاستثمار الوطني".
وفي الخلاصة "الخاسر الأول هو الحكومة بغرقها في الديون، وهي ديون جديدة لسداد الديون القديمة، أي الوقوع في فخ الديون. وقد ارتفع الدين بمقدار 67,000 مليون دينار خلال السنوات الخمس الماضية". أما "الخاسر الثاني فهو أسر الطبقة الفقيرة وأسر الطبقة المتوسطة، أي أصحاب الأجور، والذين يمثلون 80% من الاقتصاد. بالإضافة إلى ذلك، اتسعت فجوة التفاوت بين الأغنياء والفقراء عامًا بعد عام"، كما يقول.

غياب الاستثمار وتقليص الدعم.. هل هي النهاية

يسجل عبد الباسط السماري بإيجابية تقليص العجز في ميزانية الحكومة. لكنه يلاحظ أن "هذا التحسّن تحقق بفضل تراجع النفقات الاستثمارية وتأجيل مشاريع عمومية، وليس بفضل إصلاح مالي أو زيادة إنتاجية. أي أن الدولة قلّصت من “الصرف المنتج” بدل أن تُصلح مواردها الهيكلية". ويعتبر أن "التحسن في العجز يُعتبر نسبيًا وتقنيًا، لكنه لا يُخفي هشاشة المالية العمومية وضعف قاعدة الإنتاج الوطني، ما يجعل ميزانية 2026 أمام تحدي الاستدامة أكثر من أي وقت مضى".

في حين يلاحظ الدكتور شكندالي في قراءته للميزانية لعام 2026 "التقليص في الدعم ب 400 مليون دينار أي من 10.2 مليار دينار في ميزانية الدولة لسنة 2025 إلى 9.8 مليار دينار لسنة 2026 وبذلك تقلّص في نسبة الدعم من الناتج من 5.9 في المائة خلال سنة 2025 إلى 5.2 في المائة خلال السنة المقبلة". كما يسجل أن "نسبة الأجور من الناتج ستتقلّص من 14.2 في المائة خلال سنة 2025 الى 13.3 في المائة في ميزانية الدولة لسنة 2026"، في تناقض صارخ مع شعارات الدولة الاجتماعية، التي لا بكف الرئيس قيس سعيد يرددها.

وباختصار كتب خبير اقتصادي تونسي متسائلا: لو كان ابن خلدون حيًا اليوم، ماذا كان سيقول لقيس سعيد؟. ورد عليه خبير اقتصادي آخر قائلا: "عندما تكثر الجباية تشرف الدولة على النهاية".