قضايا وآراء

أوروبا العجوز تفقد الثقة في النفس.. وتجنح لليمين

أوروبا في أزمة اقتصادية مستفحلة، وثقتها في نفسها تتقلص، وحضورها وتأثيرها الدولي في تراجع.. وهذه ظروف مثالية للتقوقع على الذات، وجنوح المجتمعات الخائفة من المستقبل نحو اليمين.. جيتي
في أكثر من بلد أوروبي يبدو اليمين المتطرف صاعدا بقوة في تأثيره السياسي والاجتماعي، متنامي الحضور في البرلمانات، متسيدا للنقاشات العامة، واضح التأثير في الإعلام واستطلاعات الرأي.. بلغ السلطة في بعض البلاد، ويطرق بابها في اكثر من بلد في القارة العجوز.. ولعله يبلغها في أكثر دول القارة خلال سنوات قليلة.

يقول أوروبيون كثر، وهم يواجهون ما تواجهه دول القارة العجوز من أزمات متنامية.. تناقص في الثقة في النفس وضبابية في رؤية المستقبل والمصير واستفحال الديون، وتدهور في الخدمات العامة، وغلاء الأسعار، وتراجع حالة الرفاه عامة في معظم دول القارة.. يقولون لقد جربنا اليسار وجربنا اليمين، عقودا طويلة، منذ الحرب العالمية الثانية، على الأقل، ورأينا فشلهم جميعا في استعادة مكانة أوروبا الدولية ورفاهيتها، فلماذا لا نجرب أقصى اليمين؟ لماذا لا نعطيهم فرصة في الحكم لننظر كيف يفعلون؟

هذا السؤال المحوري في السياسة الأوروبية يتفاعل بقوة مع دعاية اليمين المتطرف، إذ تصوره تلك الدعاية قادرا على حل معضلات دول القارة خلال أسابيع أو أشهر على أقصى تقدير.. حتى قال نايجل فراج في بريطانيا إنه سيحل مشكل دخول المهاجرين للملكة المتحدة عبر القنال الإنجليزي خلال نصف شهر لا غير.. وهي دعاية تظل صادقة عند البسطاء من الناس حتى يثبت بطلانها.. كل ذلك يرشح اليمين المتطرف للحكم في تقديرنا في أكثر من بلد أوروبي خلال خمس إلى عشر سنوات لا أكثر.

حمار الهجرة القصير

يعتبر ملف التخويف من الهجرة، أهم الملفات التي يركز عليها اليمين المتطرف، حتى بات كثيرون من نشطائه يصفونها بالغزو البطيء الناعم، محذرين من استبدال الهوية الاجتماعية والدينية للمجتمعات الأوروبية بهويات هجينة بديلة.. ورغم أن الكثير من مراكز البحث الأوروبية المرموقة تعتبر الهجرة، وخاصة هجرة الكفاءات، ضرورية للحفاظ على الحد الادنى من النمو الاقتصادي ومعالجة أخلال نقص الولادات واستفحال الشيخوخة، في ظل تزايد طول أعمار السكان، وتدهور وضع مؤسسات الضمان الاجتماعي.. إلا أن خطابها العاقل لا يلفت الأنظار، تحجبه الدعايات الصاخبة لليمين المتطرف، حيث الحلول في زعمه موجودة، والعلاج ممكن وسهل، لا يحول بين الناس وبينه إلا مؤامرات اليسار المتطرف واليمين التقليدي الفاشل المتمسك بالحكم، حارما أوروبا من قوى ستجلب لها السعادة والقوة والثقة بالنفس، خلال زمن وجيز.

يعتبر ملف التخويف من الهجرة، أهم الملفات التي يركز عليها اليمين المتطرف، حتى بات كثيرون من نشطائه يصفونها بالغزو البطيء الناعم، محذرين من استبدال الهوية الاجتماعية والدينية للمجتمعات الأوروبية بهويات هجينة بديلة..
لقد حذرت المفوضية الأوروبية من تناقص اليد العاملة في القارة بنحو مليون عامل سنويا، من 265 مليون في 2022 إلى نحو 258 مليون في 2030. وقدر مركز Joint Research Centre التابع للمفوضية أن يتقلص عدد اليد العاملة بنحو 42.8 مليون حتى عام 2070، ما يعني أن عدد الشباب الأوروبي، الذي يدخل سوق العمل كل عام لا يكفي لتوفير اليد العاملة المطلوبة ماهرة أو عادية للمؤسسات الاقتصادية العطشى لليد العاملة، إلا أن اليمين المتطرف الشعبوي لا يرى ذلك، ولا يكاد يرى إلا أخطار الهجرة، دون أن يرى الكثير من فوائدها.. أو هو يرى فوائدها لكن رغبته الجارفة في التموقع في السلطة تجعلها عنده غير ذات فائدة وخطرا على النقاء العنصري لدول القارة.

الديون والعجز الاقتصادي

في ميدان الاقتصاد يكمن تفسير نمو اليمين المتطرف. فأوروبا في أزمة اقتصادية مستفحلة، وثقتها في نفسها تتقلص، وحضورها وتأثيرها الدولي في تراجع.. وهذه ظروف مثالية للتقوقع على الذات، وجنوح المجتمعات الخائفة من المستقبل نحو اليمين.. كثير من دول أوروبا، وخاصة الكبيرة منها، فاقت ديونها ناتجها الخام بأكثر من مائة في المائة.. ففي فرنسا بلغ الدين العام 114% من الناتج المحلي، بمبلغ مقداره 3416 مليار يورو، وخدمة دين في حدود 62 مليار يورو سنويا، ويتوقع أن تبلغ خدمة الدين 100 مليار يورو عام 2029.

إيطاليا بلغ دينها العام 135.3% من دخلها القومي الخام، بمعدل 3.07 تريليون يورو وخدمة دين تبلغ 3.69% من الناتج المحلي. وإذا احتسبنا حجم الدين العام والخاص قد نتفاجأ بأنه يبلغ 6.7 تريليون يورو أي ما نسبته 313% من الناتج المحلي الخام للبلاد.

أما بريطانيا فبلغ دينها العام 101.3% من الناتج المحلي أي 2.8 تريليون جنيه او ما يعادل 3.5 تريليون دولار، وتبلغ خدمة الدين 111.2 مليار جنيه سنويا. أما إذا جمعنا حجم الدين العام والخاص فالمبلغ يصل إلى اكثر من 8 تريليون جنيه، وهو مبلغ مخيف إذا قورن بحجم اقتصاد المملكة وناتجها الخام.

وأما إسبانيا فيبلغ دينها العام 101.8% من ناتجها المحلي الخام، مع خدمة دين تقدر ب2.8% من الناتج الخام للبلاد. وتبلغ ديون بلجيكا العامة 104% من ناتجها الخام مع 2.02% خدمة دين من الناتج الخام. وتعتبر ألمانيا أفضل حالا، ولكن دينها العام يبلغ 2.69 تريليون يورو بنسبة 62.5% من ناتجها الخام. لكننا إذا أضفنا ديون الشركات والأسر في ألمانيا فإن الرقم يقفز إلى 195.5 من الناتج الخام للبلاد.

في هذه الديون تكمن مشكلة أوروبا.. فدولها لم تعد قادرة على توفير الرفاه لشعوبها، إذ تستهلك خدمة الديون اموالاً طائلة كانت توجه من قبل للخدمات العامة والبنية التحتية.. وقريبا ستبدأ آثار الديون تؤثر على استقرار دول القارة، وفرنسا نموذج حي في عدم الاستقرار، بخمس حكومات في عامين، وتشتت البرلمان وإصابته بالشلل، بحيث لم يعد قادرا على اتخاذ قرار يعالج مشكلة المديونية المتفاقمة.. ولا يرى عتاولة اليمين المتطرف ذلك، فيرجعون المشكلة فقط للهجرة والأجانب الذين يتمتعون بالإعانات الاجتماعية أو يسرقون الوظائف من الأوروبيين "الأقحاح".

تراجع الولادات وأزمة نظم الرعاية والتقاعد

يعتبر تهرم القارة العجوز إحدى أكبر مشكلاتها، وهي مشكلة غير قابلة للحل في المدى المنظور، بل إنها مشكلة تتفاقم عاما بعد عام.. إيطاليا أكثر دول القارة ضعفا في نسب الولادات، بمعدل 1.18 طفل لكل امرأة، وهو معدل أقل بكثير من معدل 2.1 طفل لكل امرأة حتى يمكن أن يتجدد عدد السكان.

ولا تبعد ألمانيا كثيرا عن إيطاليا فمعدل الولادات فيها في حدود 1.35 طفل لكل امرأة. ويبلغ المعدل في بريطانيا 1.44 طفل لكل امرأة. وتعتبر فرنسا أفضل حالا بقليل، إذ تبلغ النسبة فيها 1.66 طفل لكل امرأة. ويرجع الفضل في ذلك للمهاجرين فيها، فلهم الفضل في تلك الزيادة.

إن نسب الولادات الضعيفة لكل امرأة في أوروبا تعني أن القارة من دون مهاجرين جدد ستدخل في نسق تراجع كبير للسكان يهدد القارة بالانقراض، وهو امر يحتاج زمنا طويلا حتى يصير واقعا.. لكن المؤسسات الاقتصادية لا تستطيع الانتظار طويلا في ظل استفحال المنافسة الدولية، ما يجعلها عطشى لليد العاملة، التي توفرها الهجرة شرعية أو غير شرعية..

قطاع نظم الرعاية الصحية وصناديق الضمان الاجتماعي هو الآخر في امس الحاجة لأيدي عاملة شابة، توفر استدامة صناديق التقاعد والتامين والرعاية الصحية، بضخ أموال جديدة فيها تمكنها من دفع مستحقات التقاعد والتأمين والرعاية الصحية. وكلما تناقص عدد العمال الشباب كلما تفاقمت أزمة الصناديق. وبما ان الولادات تقل عاما بعد عام، وأعمار السكان تزيد طولا بسبب الرعاية الصحية ومحاربة الأمراض، فإن الأزمة تستفحل مع الزمن، ولا حل لها إلا بالهجرة.. لكن عيون اليمين المتطرف عمياء لا ترى شيئا من ذلك.

تحول الثروة نحو الصين

إذا ابتعدنا قليلا عن التفاصيل ونظرنا للصورة الكبرى في العالم نكتشف أن دول أوروبا لم تعد دولا مصنعة مثلما كانت قبل عقود، تستورد الخامات الرخيصة وتصدر المنتجات المصنعة، غالية الأثمان، فتتوفر لها ثروات هائلة، توظفها في التعليم والخدمات الصحية والبنية التحتية، وتسمح للدول بضمان رفاه شعوبها.. لقد انتقلت معظم تلك الصناعات خلال العقود الخمسة الماضية نحو الصين خاصة ودول جنوب شرق آسيا عامة، ومعها انتقلت الثروات، ما جعل دول أوروبا، التي تراجعت مداخيلها بتراجع هيمنتها على الصناعة في العالم، تستدين لتحافظ على الحد الأدنى من إنفاقها على جودة الخدمات العامة وقوة البنية التحتية. لكن طريق الاستدانة محفوف بالكثير من المخاطر. وقد رأيناه في فرنسا يتسبب في عدم استقرار سياسي وتعيين خمس حكومات في اقل من عامين.. وعدم الاستقرار السياسي يصيب البلد الذي يعاني منه بالعجز عن التحرك في الوقت المناسب ويربك كل علاج ممكن.

إن نسب الولادات الضعيفة لكل امرأة في أوروبا تعني أن القارة من دون مهاجرين جدد ستدخل في نسق تراجع كبير للسكان يهدد القارة بالانقراض، وهو امر يحتاج زمنا طويلا حتى يصير واقعا.. لكن المؤسسات الاقتصادية لا تستطيع الانتظار طويلا في ظل استفحال المنافسة الدولية، ما يجعلها عطشى لليد العاملة، التي توفرها الهجرة شرعية أو غير شرعية..
الطريف أن هذه التحولات الدولية الكبرى لا يراها الشعبيون في اليمين المتطرف، فهم يبحثون عن تشخيص بسيط للداء الأوربي، فلا يرونه إلا في الحمار القصير سهل الركوب وهو الهجرة والمهاجرون الأجانب، وخاصة العرب والمسلمون منهم.

الإدانة تشمل أحزاب الوسط واليسار

ليس المشكل في شعبوية اليمين المتطرف وحده.. فأحزاب اليسار التقليدي واليمين المحافظ تتحمل نصيبا وافرا من المسؤولية عن انجراف أوروبا نحو اليمين المتطرف. فمنذ سنوات بعيدة كان اليمين المتطرف في فرنسا يقرع أبواب الحكم. وانتقلت الجبهة الوطنية من حزب هامشي إلى حزب بالغ الفعالية والتأثير في فرنسا، حتى بلغ مرشح الجبهة المتطرفة الدور الثاني في الانتخابات الرئاسية في ثلاث مرات، كانت الأولى في 2002 بترشح جون ماري لوبان في مواجهة جاك شيراك، وتكرر الأمر في 2017 بترشح ابنته مارين لوبان في مواجهة إيمانويل ماكرون، وحصل الأمر ذاته أيضا في 2022.

اماً عن نسب التصويت لتيار اليمين المتطرف فانتقلت من 18% في 2002 إلى 34%  في 2017. وبلغت النسبة 41% في 2022، أي قريبا من نصف سكان البلاد وناخبيها. أما عن كيف بلغ اليمين المتطرف ذلك في فرنسا، ويوشك ان يبلغه في باقي دول القارة فالسر يكمن في نفاق أحزاب الوسط واليسار. فرغم ان الدرس الفرنسي كان سابقا زمنيا وواضحا في المآلات الكارثية لسياسة الميل نحو اليمين للحصول على أصوات المتطرفين، فإن الطبقة السياسية الفرنسية فشلت فشلا ذريعا في العلاج، بل زادت الطين بلة، ويتكرر الأمر اليوم في دول أوروبية كثيرة تجنح أحزابها لليمين طمعا في الأصوات، فإذا بها تخسر مواقعها، وتقوي اليمين المتطرف أكثر.. فبدلا من أن تواجه تلك الأحزاب خطاب اليمين وتكشف بالأرقام والإحصائيات العلمية الدقيقة حاجة دول القارة واقتصاداتها ومؤسسات التقاعد والرعاية الصحية فيها للهجرة والمهاجرين، فإنها تعمد إلى تبني سياسات اليمين المتطرف، وتجعلها سياسة دولة، بالهجوم المتكرر على المهاجرين والتضييق عليهم، وتحويل النقاش العام إلى نقاش محموم عن أخطار الهجرة ومضارها، فتكون النتيجة عكسية بإعطاء مزيد من المصداقية لخطاب اليمين المتطرف، لا تقليص تأثيره.

انظر مثلا في بريطانيا، فمنذ أن تولى حزب العمال الحكم في المملكة المتحدة صيف 2024 والحزب يتبنى خطاب اليمين المتطرف، إذ يبالغ في الحديث عن إنجازاته في طرد المهاجرين. الأغرب أنه كلف وزيرة داخلية من أصول باكستانية، لا يكاد يكون لها حضور في الإعلام إلا لتعداد إنجازاتها وإنجازات وزارتها في الحرب على الهجرة وطرد المهاجرين.. وكل ذلك يعطي مصداقية أكثر لحزب الإصلاح اليميني المتطرف وخطابه عن خطر الهجرة والمهاجرين، وهو ما يجعل الحزب يطرق أبواب الحكم بشكل أعنف، ما لم يغير الحزب الحاكم سياسته وينجح في تحسين الوضع الاقتصادي للناس ولو قليلا.

لكن أوروبا قد تكون محظوظة، فما يجري في الولايات المتحدة، التي يحكمها اليوم رئيس يميني متطرف، من تطورات سيئة في ميادين الاقتصاد والسياسة والعلاقات الدولية، وما تسببه السياسات الحمائية المجنونة التي يفرضها الرئيس ترامب، من ارتفاع التضخم وفقدان الثقة في الاقتصاد الأمريكي وفي عملة الدولار، قد تفتح أعين الأوروبيين على خطر اليمين المتطرف على دول القارة قبل فوات الأوان.