قضايا وآراء

مصر ضمن الـ10 الكبار اقتصاديا: رؤية إسلامية لنهضة اقتصادية شاملة (17)

"الحديث عن بناء الإنسان المصري وتطوير قدراته ليس مجرد تمنيات أو أحلام وردية، بل مشروع جدي يواجه تحديات حقيقية"- عربي21
17- بناء الإنسان المصري كمحرك للنهضة الاقتصادية

سمات الشخصية المصرية

قبل أن نخوض في التحديات والحلول، لا بد من فهم طبيعة الشخصية المصرية التي نسعى لبنائها وتطويرها. وهنا نقف أمام حقيقة علمية مهمة: الشخصية المصرية ليست كيانا أحاديا جامدا، بل هي -كما وصفها الجغرافي الكبير د. جمال حمدان في موسوعته الشهيرة "شخصية مصر"- نتاج تفاعل معقد بين عبقرية المكان والتعاقب الحضاري عبر آلاف السنين.

التعددية والثراء الحضاري

تميزت مصر عبر تاريخها بكونها ملتقى حضارات وثقافات متعددة. هذا التعاقب الحضاري -الفرعوني، اليوناني، الروماني، القبطي، الإسلامي، وصولا للعصر الحديث- خلق شخصية متعددة الطبقات، غنية بالتجارب، ومرنة في التعامل مع التغيير. هذا الثراء يمثل ميزة استراتيجية إذا أحسنّا استثماره، فالمجتمعات التي عاشت تجارب حضارية متنوعة تمتلك قدرة أكبر على التكيف والابتكار.

هذه التناقضات ليست قدرا محتوما، بل هي نتاج ظروف تاريخية واجتماعية واقتصادية يمكن تجاوزها بالإصلاح المنهجي والتنمية الشاملة

عندما ندرس الشخصية المصرية بموضوعية، نجد مجموعة من الإمكانات والقدرات الكامنة التي يمكن أن تكون محركا للنهضة:

أولا: الصبر والقدرة على التحمل. شهد التاريخ على قدرة المصري الاستثنائية على الصبر والمثابرة؛ من بنى حضارة استمرت آلاف السنين لم يكن يعتمد فقط على الموارد المادية، بل على إرادة وصبر متواصل. هذه القدرة على التحمل والاستمرار رغم الصعاب هي رأس مال بشري هائل، لكنها تحتاج لتحويلها من مجرد "تحمل سلبي" للظروف إلى "مثابرة إيجابية" نحو أهداف محددة.

ثانيا: الذكاء التكيفي والقدرة على الارتجال. المصري معروف بذكائه العملي وقدرته على إيجاد حلول مبتكرة في ظل الإمكانات المحدودة. ما تُعرف بـ"الشطارة المصرية" هي في جوهرها تعبير عن عقلية قادرة على التفكير الإبداعي والتكيف السريع. لكن هذه القدرة تحتاج للتطوير والتوجيه نحو الابتكار المنهجي بدلا من الحلول المؤقتة، ونحو ريادة الأعمال المنظمة بدلا من الارتجال العشوائي.

ثالثا: الروابط الاجتماعية والتكافل. رغم التحديات الحديثة لا تزال الشخصية المصرية تحتفظ بقيم التكافل الاجتماعي المتجذرة في الثقافة الإسلامية والموروث الشعبي؛ النماذج التقليدية مثل "الجمعيات" والعمل التطوعي في الأزمات تشهد على وجود هذه الروح. المطلوب هو تطوير هذا التكافل من أشكاله التقليدية إلى صيغ حديثة من التعاونيات الاقتصادية والمشاريع الاجتماعية المستدامة.

رابعا: الانتماء والهوية. يحمل المصري انتماء عميقا لوطنه وهويته، وهو انتماء ظهر في كل اللحظات الفارقة من التاريخ. هذا الشعور يمكن أن يكون محركا قويا للعمل الجماعي والتضحية من أجل المشاريع الوطنية، لكن بشرط أن يشعر المواطن بأنه شريك حقيقي في صنع المستقبل وليس مجرد متفرج أو منفذ.

خامسا: البعد الإيماني والقيم الأخلاقية. الإيمان والقيم الإسلامية الراسخة في الوجدان المصري تمثل قوة معنوية ودافعا أخلاقيا للعمل الصالح. قيم مثل الأمانة، الإتقان، والسعي للرزق الحلال هي أسس متينة لبناء اقتصاد قوي ومستدام، لكن المطلوب هو ربط هذه القيم بالممارسة العملية في مجالات العمل والإنتاج والابتكار.

تناقضات الشخصية المصرية

من الأمانة العلمية أن نعترف بأن الشخصية المصرية -كأي شخصية قومية- تحمل تناقضات واضحة. فكما وصفها بعض الباحثين بأنها "أرض المتناقضات"، نجد أحيانا صبرا يتحول إلى سلبية وانهزامية، وذكاء عمليا لا يترجم دائما إلى إنجاز منظم ومستدام، وانتماء عاطفيا لا يرافقه دائما التزام عملي بالواجبات، وقيما دينية قد لا تنعكس كاملة في السلوك اليومي.

هذه التناقضات ليست قدرا محتوما، بل هي نتاج ظروف تاريخية واجتماعية واقتصادية يمكن تجاوزها بالإصلاح المنهجي والتنمية الشاملة.

إن بناء الإنسان المصري القادر على قيادة النهضة الاقتصادية لا يعني خلق شخصية جديدة من العدم، ولا يعني إنكار التحديات الواقعية، بل يعني تحرير الإمكانات بإزالة العوائق التي تحول دون ظهور القدرات الكامنة، والتطوير المنهجي بتحويل السمات الإيجابية من حالتها الخام إلى مهارات وقدرات منظمة، ومعالجة التناقضات بمواجهة الجوانب السلبية بحكمة وتحويلها إلى فرص للنمو، وبناء البيئة المناسبة بخلق سياق اجتماعي واقتصادي يشجع على الإبداع والإنتاجية.

التحديات ومواجهة الواقع بصراحة وحكمة

إن الحديث عن بناء الإنسان المصري وتطوير قدراته ليس مجرد تمنيات أو أحلام وردية، بل مشروع جدي يواجه تحديات حقيقية ومعقدة تتطلب مواجهة صريحة وحلولا عملية.

التحدي الأول: الإرث التعليمي التقليدي وثقافة الحفظ

لعقود طويلة، اعتاد النظام التعليمي المصري على نموذج تقليدي يركز على الحفظ والاستظهار أكثر من الفهم والإبداع. هذا النموذج أنتج أجيالا من الطلاب المتفوقين في حفظ المعلومات، لكنهم أقل قدرة على التفكير النقدي وحل المشكلات والابتكار، كما خلق ثقافة تعليمية تقدس الإجابة الصحيحة الواحدة وتخشى من الأسئلة المختلفة والحلول الإبداعية.

التحدي الثاني: الفجوة بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل

هناك فجوة واضحة وكبيرة بين ما يتعلمه الطلاب في المدارس والجامعات وبين ما يحتاجه سوق العمل الفعلي. هذه الفجوة تؤدي إلى ظاهرة البطالة المتعلمة، حيث نجد خريجين مؤهلين أكاديميا لكنهم غير قادرين على العثور على فرص عمل مناسبة، بينما هناك وظائف شاغرة تتطلب مهارات لا يمتلكها هؤلاء الخريجون.

التحدي الثالث: ضعف الإنفاق على البحث والتطوير

مصر تنفق نسبة ضئيلة جدا من ناتجها القومي على البحث والتطوير مقارنة بالدول المتقدمة. هذا الضعف في الاستثمار ينعكس على قدرة البلاد على الابتكار والتطوير التكنولوجي، ويجعلها تابعة للآخرين في مجال التقنيات المتقدمة.

التحدي الرابع: هجرة العقول والكفاءات

تعاني مصر من نزيف مستمر للعقول والكفاءات المتميزة التي تهاجر بحثا عن فرص أفضل وبيئة عمل أكثر تقديرا لقدراتها. هذه الهجرة تحرم البلاد من أفضل مواردها البشرية، وتضعف قدرتها على التطوير والابتكار.

التحدي الخامس: المقاومة الثقافية للتغيير

كل مشروع تغيير حقيقي يواجه مقاومة من فئات معتادة على الوضع القائم ومستفيدة منه. هذه المقاومة قد تأتي من داخل المؤسسات التعليمية والإدارية، أو من المجتمع الذي قد يخشى من التغيرات الجديدة ويفضل الثبات على المألوف.

التحدي السادس: محدودية الموارد المالية

تطوير النظام التعليمي والتدريبي وبناء منظومة بحث وتطوير متقدمة يتطلب استثمارات ضخمة قد تبدو صعبة التحقيق في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة. هذا التحدي المالي يمكن أن يكون عائقا أمام تنفيذ الخطط الطموحة للتنمية البشرية.

التحدي السابع: الحرب الناعمة على الهوية والقيم

تواجه مصر حربا ناعمة منظمة تستهدف تفكيك منظومة القيم الإسلامية والعربية الأصيلة، وإحلال قيم استهلاكية ومادية محلها. هذه الحرب تستخدم وسائل الإعلام والترفيه ومنصات التواصل الاجتماعي لتشويه صورة القيم التقليدية وتصويرها كعوائق أمام التقدم، بينما تروج لنماذج سلوكية وفكرية غربية قد لا تتناسب مع طبيعة المجتمع المصري.

التحدي الثامن: ضعف الثقة في الذات والقدرات الوطنية
المطلوب هو النظر إلى هذه التحديات بعيون الفرص، والتعامل معها بحكمة وصبر وإصرار. فالشعوب العظيمة لا تُعرف بغياب التحديات عنها، بل بقدرتها على تحويل التحديات إلى انطلاقات نحو المستقبل المشرق

عقود من التبعية والاعتماد على الخارج أورثت أجيالا من المصريين شكوكا في قدراتهم الذاتية، وميلا لتقديس كل ما هو أجنبي واحتقار الإنتاج المحلي. هذا عقدة الخواجة تعيق الثقة في المشاريع الوطنية والإبداعات المحلية، وتخلق حالة من الانهزامية النفسية أمام التحديات.

التحدي التاسع: الضغوط الاقتصادية والاجتماعية المباشرة

الظروف الاقتصادية الصعبة وارتفاع تكلفة المعيشة تدفع كثيرا من الأسر للتركيز على احتياجاتها المباشرة وقصيرة المدى، على حساب الاستثمار في تعليم وتطوير أطفالها، كما تدفع الشباب للبحث عن عمل سريع بدلا من استكمال تعليمهم أو تطوير مهاراتهم.

نحو حلول شاملة ومستدامة

إن مواجهة هذه التحديات ليست مهمة مستحيلة، لكنها تتطلب إرادة سياسية قوية، ورؤية استراتيجية واضحة، وتنفيذا منضبطا ومستمرا. الأهم من ذلك كله هو الإيمان بأن الاستثمار في الإنسان المصري هو الطريق الوحيد للنهضة الحقيقية والمستدامة.

كل تحدٍ من هذه التحديات يمكن تحويله إلى فرصة إذا أحسنا التعامل معه؛ الإرث التعليمي التقليدي يمكن أن يكون قاعدة صلبة نبني عليها نظاما أكثر تطورا، والفجوة بين التعليم وسوق العمل يمكن أن تكون فرصة لبناء شراكات جديدة ومبتكرة. هجرة العقول يمكن أن تكون بداية لبناء شبكة عالمية من المصريين المتميزين الذين يساهمون في تنمية بلادهم من أماكنهم الجديدة.

المطلوب هو النظر إلى هذه التحديات بعيون الفرص، والتعامل معها بحكمة وصبر وإصرار. فالشعوب العظيمة لا تُعرف بغياب التحديات عنها، بل بقدرتها على تحويل التحديات إلى انطلاقات نحو المستقبل المشرق.

وفي الختام، فإن بناء الإنسان المصري القادر على قيادة النهضة الاقتصادية ليس مجرد حلم، بل ضرورة حتمية وهدف قابل للتحقيق. لدينا المقومات الأساسية؛ التراث الحضاري العريق، والقيم الإسلامية الراسخة، والموارد البشرية الهائلة، والتجارب العالمية المُلهمة للاستفادة منها.