أحيانا يتحيّر المرء في طروحات كبار الساسة والدبلوماسيين،
والتي يقولونها بجرأة وثقة يحسدهم عليها الناس العاديون، الذين يشعرون بدهشة، لا يملكوا
إزاءها إلا الصمت والتهامس عن مدى جدية ما يتحدث عنه هؤلاء الكبار، الذين لهم من التاريخ
والاسم، ما يجعلهم يفكرون كثيرا قبل أن يتكلموا، خاصة في الأمور ذات الحساسية الخاصة.
فكلامهم ليس كأي كلام، لأنه في النهاية يعكس آراء مناصبهم ومواضعهم الهامة في الحياة
العامة.
وصدق من قال: رحم الله امرأ كان عقلُه على لسانه رقيبا، لكن
في ازدحام الزواحم، أحيانا يندفع الإنسان إلى قول أشياء تعبر عن انفعالات مختلطة، تعكس
اضطرابا واضحا في رؤيته وتصوره عن المشهد الذي يتحدث عنه، أو عن حالة من حالاته..
وأكثر الأمثلة على ذلك حديثهم المبكر عن "اليوم التالي"
للحرب في
غزة، وكان نتنياهو وقتها يقول في مؤتمراته الصحفية إن النصر على حماس وتحقيق
أهداف
الحرب بات وشيكا، وقال نصا في شباط/ فبراير 2024م: "نحن
في طريقنا للنصر الساحق، وهي مسألة وقت".
وكان طبيعيا أن تكون الخطوة القادمة بعد النصر الساحق، هي
التفكير في اليوم التالي للنصر الساحق، فكانوا يأخذون من الوهْم خميرة يصنعون منها
وهْما جديدا، وهكذا، في تشابه ملفت لعملية صنع "الزبادي"، لكن صناعة الزبادي
تختلف كثيرا عن صناعة الحقائق والوقائع التي تكون الحرب مركزها ومحورها!!
* * *
انتهت الحرب بما نعلمه من عجز إسرائيل عن تحقيق أهداف الحرب، واضطرار "الراعي الرسمي" للحرب للتدخل بحزم لا يخلو من عزم وشدة، لإنهاء هذه الحرب ومنع نتنياهو من الذهاب بإسرائيل إلى "حافة الهاوية
انتهت الحرب بما نعلمه من عجز إسرائيل عن تحقيق أهداف الحرب،
واضطرار "الراعي الرسمي" للحرب للتدخل بحزم لا يخلو من عزم وشدة، لإنهاء
هذه الحرب ومنع نتنياهو من الذهاب بإسرائيل إلى "حافة الهاوية".
وتعبير حافة الهاوية، له تفريعاته العديدة التي تتصل بقوام
الحياة ذاتها داخل إسرائيل، ومستقبل هذه الحياة في المجتمع والدولة والجيش.. والحديث
في ذلك مليء بالمعلومات والأرقام المعلنة. كان لا بد إذن من تحسين وجه الصورة.
* * *
في مثل هذه المواقف، يقول المصريون أمثالا شعبية، يتندرون
فيها من غرابة الصورة التي تبدو أمامهم في مشهد متناقض، وقد قام الأديب النابه الأستاذ
أحمد تيمور باشا (ت: 1930م) رحمه الله بجمعها وتصنيفها فيما يشبه المعجم بعنوان "الأمثال
العامية"، وفيها مَثَل يقول: "ايش تعمل الماشطة في الوجه العكر". والماشطة
هي خبير التجميل، والمعنى واضح.
وقد أصبح وجه إسرائيل بعد عامين من الحرب الإبادية المسعورة
على غزة مُعكّرا إلى حدود لم يكن يتوقعها أحد، إلا "صاحب العصا" يحيى السنوار
وأصحابه، حين قال نصا في عام 2021م: "سنجعل الاحتلال أمام خيارين: إما أن نرغمه
بتطبيق القانون الدولي واحترام القرارات الدولية ونحقق إقامة دولة فلسطينية، أو أن
نجعل هذا الاحتلال في حالة تناقض وتصادم مع الإرادة الدولية كلها".
"الدولة الفلسطينية" باتت لا يكف المجتمع الدولي
عن الحديث عنها، وقد تابعنا ما كان بخصوص ذلك. أما عن "القانون الدولي والقرارات
الدولية" فقد واجها التناقض والتصادم الذي توقعه الرجل بشكل مرعب، فسمعنا السيناتور
الجمهوري ليندسي جراهام (70 عاما) يقول في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024م صراحة وعلانية، إنه سيُقدم تشريعا تحذيريا للدول الأخرى
بأنها ستتحمل عواقب من أمريكا في حال مساعدتها للمحكمة الجنائية الدولية في قراراتها
ضد إسرائيل، وذلك بعد إصدار المحكمة مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو ووزير دفاعه السابق
غالانت.
ومن أيام صرح وزير المالية اليوناني السابق يانيس فاروفاكيس
(64 عاما) حول ذلك قائلا: قنابل إسرائيل وسياساتها لم تحكم على شعب غزة بالإعدام فقط،
بل دمرت "فكرة القانون الدولي"، وعادت بالبشرية إلى زمن حيث القوة هي الحق.
فبتجاهل أمريكا والغرب لمحكمتي العدل والجنائية الدولية، تُرك الأمر للأغلبية العالمية
للدفاع عن حقوق الإنسان وتطبيق القانون الدولي. قال ذلك في معرِض حديثه عن "محكمة
غزة" الرمزية التي عقدتها جامعة إسطنبول في 23 تشرين الأول/ أكتوبر الحالي.
* * *
حاولت "الماشطة" بتعبير الفلكلور المصري، أو الراعي
الرسمي لدولة الاحتلال بتعبير التاريخ العصري (أمريكا)، صنع أي شيء من أجل تجميل صورة
وجه إسرائيل، وكان أبرز المحاولات هو الحديث الذي لا ينقطع عن "نزع
سلاح"
المقاومة.
وقبل أن أتحدث في ذلك، سيلفت انتباهنا هذا التوافد الكثيف
لمسؤولين كبار ومعتبرين في الإدارة الأمريكية الحالية، فالموضوع في حقيقة الحال أكبر
من (ويتكوف وكوشنير)، إذ وصل إسرائيل نائب الرئيس الأمريكي ووزير الخارجية في مواعيد
متقاربة، وكان قبلهما بالطبع ترامب نفسه في الاحتفالية الشهيرة إياها. وهو مما يشير
إلى أن وضع إسرائيل أصبح أخطر من أن يترك للحكومة الإسرائيلية.
فإسرائيل ذاتها أصبحت مُهددة بفعل هذه الحكومة بعد 7 أكتوبر،
وكل يوم في العامين الماضيين كان أسوأ على إسرائيل ومن يرعاها من اليوم الذي يسبقه.
والبعض يقول إن مكاتب الإدارة الأمريكية انتقلت بالفعل إلى داخل إسرائيل، وهذا في حد
ذاته انتصار تاريخي كبير، لأن من كان يتشكك في معادلة "الشاطر والمشطور وبينهما
إسرائيل" في توصيف لعالم العروبة والإسلام، والتي كانت أحد أهم شروط الاحتلال
للخروج من المنطقة في الخمسينيات، لم يعد يتشكك.
* * *
وهذا تماما مثل ما نراه الآن في السودان من تطاحن واقتتال
واستنزاف للبشر والموارد، وعلى الفور سنتذكر الإصرار العجيب لبريطانيا بربط الجلاء
من مصر عام 1954م، بفصل بين مصر والسودان، جار واديها وحصنها الجنوبي! ولم يسأل أحد:
وما مصلحة بريطانيا في مسألة كهذه، باتت بالنسبة لها تاريخا من الماضي؟
ما نراه الآن في السودان ما هو إلا إجابة بسيطة عن هذا السؤال
البسيط.. وصدق أمير الشعراء أحمد شوقي (ت: 1932) رحمه الله حين قال لنا:
وإذا فاتك التفات إلى الماضي غاب عنك وجه التأسّي
عونا نأخذ جملتهم الأثيرة تلك (نزع السلاح) ونقلبها على أوجهها، ولا أتصور إلا أن لها وجها واحدا آخر فقط، وهو إنهاء ومحو "فكرة المقاومة" ذاتها
والتأسي بمعنى الاتباع والفهم والاقتداء. والتاريخ هو مخزن
العبر والاعتبار والتأسي، خاصة فيما يتشابه ويتقارب من أحداث وعصور.
* * *
في محاضرة قيمة للصديق العزيز وضاح خنفر منذ عدة أيام، تحدث
عن التاريخ كمرجع أساسي لأي تفكير استراتيجي، وتحدث ببلاغة بالغة البساطة والعمق، عن
مفهوم "البداهة"، والتي هي ما يرد إلى الذهن سريعا وفورا عند سماع حديث أو
رؤية حدث، ووصفها بأنها عادة ما تكون من أحكام العوام والبسطاء والعجائز.
ونستعير هنا توصيفه الدقيق في وضع "البداهة" أمام
موضوع "نزع سلاح" المقاومة، سواء في لبنان أو فلسطين، فالجميع مشغول به،
والأسفار ذهابا وإيابا كلها لا تكف عن هذا الحديث.
لكن سؤال "البداهة" هنا هو كيف يتم تنفيذه؟ إذا
كنت قد عجزت عن معرفة مكان الأسرى والأنفاق طوال عامين، مع كل ما تملكه من قدرات عسكرية
وتكنولوجية واستخبارية، فكيف ستعرف مكان السلاح؟ هل ستسلمه لك المقاومة؟ وإذا افترضنا
ذلك وهو أبعد ما يكون عن الحدوث، فما أدراك أن هذا هو كل السلاح؟ هل لديك حصر بكمياته
وأنواعه؟! أظن هذا هو بعينه حديث "اللا بداهة"، ملتزمين أقصى ما يمكن من
تأدب لتوصيف لمثل هذه المواقف.
لكن دعونا نأخذ جملتهم الأثيرة تلك (نزع السلاح) ونقلبها
على أوجهها، ولا أتصور إلا أن لها وجها واحدا آخر فقط، وهو إنهاء ومحو "فكرة المقاومة"
ذاتها، ونزعها من العقول والقلوب والإرادات. وهو المحال بعينه، وتاريخ المنطقة منذ
منتصف القرن التاسع عشر يشهد بذلك. فطالما هناك احتلال هناك مقاومة.. وهذه هي البداهة.
x.com/helhamamy