تواجه
تركيا حالة من التوتر السياسي والقضائي غير المسبوق، بعد أن أعلنت النيابة العامة في إسطنبول فتح تحقيق جديد يشمل رئيس بلدية إسطنبول المعزول أكرم
إمام أوغلو، بتهم تتعلق بالتجسس، في إطار سلسلة من القضايا التي يواجهها منذ اعتقاله في آذار/مارس الماضي بتهم فساد مالي وإداري.
وأوضحت النيابة أن التحقيق الجديد يستند إلى نتائج التحقيقات مع حسين غون، المتهم بالتجسس وبيع وثائق حساسة لجهات أجنبية، وهو ما أدى إلى توسيع دائرة الاشتباه لتشمل مدير حملة إمام أوغلو الانتخابية نجاتي أوزكان، إضافة إلى الصحفي المعروف مردان ينار داغ، رئيس تحرير قناة تيلي 1 التلفزيونية المعارضة.
وبحسب بيان النيابة العامة، فإن التحقيقات مع غون منذ الرابع من تموز/يوليو الماضي أظهرت قيامه بالتجسس على معلومات حساسة داخل تركيا وبيعها لدول أجنبية، من دون مراعاة سرية هذه البيانات.
وأضاف البيان أن الوثائق التي عثر عليها تضمنت معلومات عن مدنيين ووثائق عسكرية وصورا، إلى جانب جوازات سفر لمواطنين إسرائيليين يقومون بأنشطة سياسية وعسكرية، كما تطرقت التحقيقات إلى فلسطينيين يحملون الجنسية التركية لهم نشاطات في البلاد.
وأشارت النيابة إلى أن التحقيقات أظهرت أن غون كان على تواصل مع أفراد محسوبين على جماعة الخدمة، المتهمة بمحاولة الانقلاب الفاشلة في تموز/يوليو 2016 والتي يتزعمها فتح الله غولن، فضلا عن تواصله مع أعضاء من حزب العمال الكردستاني، وأرقام موظفين في القنصليات الأجنبية، إضافة إلى تلقيه مبالغ مالية كبيرة، شملت سحب نحو 85 مليون ليرة تركية نقدا من حساباته.
وكشفت الدفاتر والملاحظات المكتوبة بخط اليد أن غون كان يوثق محاولات انقلاب واضطرابات داخلية في بلدان مختلفة، فضلا عن تسجيله ملاحظات يومية حول الأشخاص والمؤسسات التي التقاها داخل تركيا، وهو ما يظهر تنظيمه للعمل الاستخباراتي بشكل ممنهج.
وأكدت النيابة أن غون نقل معلومات تتعلق بتركيا إلى ضباط استخبارات وأفراد يعتقد أنهم يعملون لصالح دول أجنبية، كما أظهرت التحقيقات وجود مراسلات مع هؤلاء الضباط عبر برنامج المحادثات المشفرة "ويكر"، تضمنت صورا التقطت من مسافة بعيدة لعدد من الشخصيات، بينهم وزيران تركيان سابقان.
وبحسب النيابة، فإن المشتبه به استخدم نفس البرنامج للتواصل مع نجاتي أوزكان، مستشار حملة إمام أوغلو، حيث أصدر له تعليمات تتعلق بجمع المعلومات الاستخباراتية الرقمية وتحليل البيانات الانتخابية، وتوظيف نحو 70 ألف متطوع في الحملة، إضافة إلى محاولات اختراق هواتف مستشارين آخرين لمتابعة الاجتماعات والعمليات الانتخابية.
وأوضحت النيابة أن الهدف من هذه الأنشطة كان جمع الأموال اللازمة لدعم ترشح إمام أوغلو في الانتخابات، عبر تحقيق مكاسب مالية، إلى جانب تسريب معلومات سرية عن الناخبين وإنشاء ملفات تعريفية لهم، بما يتيح مشاركة هذه المعلومات مع أجهزة استخبارات أجنبية، وهو ما يصنف ضمن أنشطة
التجسس.
كما تبين للنيابة تورط الصحفي مردان ينار داغ في أنشطة مرتبطة بالتجسس، إذ كان على اتصال دائم مع غون، وشارك في تنظيم المرحلة الصحفية من العملية الانتخابية لعام 2019، مستفيدا من المعلومات المسربة عن الناخبين وأجهزة الاستخبارات الأجنبية، وهو ما يجعل قضيته مترابطة مع التحقيقات الجارية ضد إمام أوغلو وفريقه.
وأصدرت النيابة أوامر اعتقال بحق إمام أوغلو ونجاتي أوزكان، المتواجدين حالياً في السجن بتهم منفصلة، كما احتجزت الصحفي ينار داغ، فيما جرى تفتيش منزله ومكان عمله. كما أمرت المحكمة بنقل حسين غون إلى مديرية أمن إسطنبول لاستجوابه بتهمة "تزعم منظمة إجرامية" استنادا إلى الأدلة الجديدة.
وفي موازاة ذلك، أعلنت النيابة توقيف 15 شخصا آخرين على صلة بالقضية، بينهم مسؤولون وموظفون في ست شركات مشتركة مع بلدية إسطنبول، متهمين بتسريب معلومات شخصية لنحو 4.7 ملايين مستخدم لتطبيقات البلدية وبيعها لدول أجنبية، إضافة إلى تسريب بيانات 11 مليون ناخب من تطبيقات تتعلق بالإسكان في المدينة. وشملت التوقيفات أشخاصا مطلوبين بتهم انتهاك قانون الإجراءات الضريبية والانتماء إلى ما وصفته النيابة بـ "تنظيم إمام أوغلو الإجرامي الربحي".
إمام أوغلو ينفي
أثار التحقيق الجديد ردود فعل واسعة داخل تركيا، ففي بيان نشر عبر حساباته الرسمية على وسائل التواصل الاجتماعي، من داخل سجنه في مؤسسة مرمرة العقابية في سيلفري، قال إمام أوغلو:
"مثل هذه الافتراءات والأكاذيب والمؤامرات لا تخطر حتى على بال الشيطان".
وأضاف أن ما يجري يمثل "انحطاطا أخلاقيا مخزيا لا يمكن وصفه بالكلمات"، محذرا من أن "العمليات التي تدار اليوم عبر القضاء تحولت إلى تهديد كبير وتاريخي لجمهورية تركيا، وللقضاء التركي الشريف، ولجميع مواطنيها البالغ عددهم 86 مليون نسمة".
وفي السياق ذاته، رفض نجاتي أوزكان، المعتقل حاليا في سجن كانديرا، الاتهامات الموجهة إليه، واصفا إياها بأنها "حملة اغتيال معنوي غير قانونية".
وقال أوزكان في بيان نشر على حسابه الرسمي: "الشخص الذي علمت اليوم من خلال الأخبار أنه اعتقل بتهمة التجسس، كان لقائي الوحيد به بعد انتخابات 2019 المحلية، حين زعم أنه يمتلك برنامجا لتحليل البيانات على وسائل التواصل الاجتماعي، وحاول تسويقه لنا. الاجتماع لم يسفر عن أي تعاون، ومنذ ذلك اليوم لم يكن بيننا أي اتصال".
ووصف أوزكان الاتهامات بأنها "غير واقعية وسخيفة"، مضيفا: "الفوز بالانتخابات ليس جريمة، وممارسة المهنة بشغف ليست ذنبا".
أوزال: "اتهامات مكررة ومهينة"
من جانبه، شن زعيم حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزال هجوما حادا على السلطات القضائية، معتبرا أن ما يجري "خطة سياسية مكررة" تهدف إلى تشويه المعارضة.
وقال أوزال في مؤتمر صحفي بمقر الحزب في أنقرة: "نواجه اليوم وقاحة لا مثيل لها. حين تعجز السلطة عن مواجهة خصومها، تلجأ إلى اتهامات التجسس. هذا ما كانت تفعله جماعة غولن (فتح الله غولن) حين تفشل في تحقيق أهدافها — كانت تفتح قضايا تجسس لتصنع وهماً لدى الرأي العام".
وأضاف: "أسهل طريقة لتشويه السمعة هي إطلاق تهمة التجسس، ثم محاولة بناء رواية حولها. لكن أريد أن أسأل: من اتهمتموه سابقاً بالتجسس وتمت إدانته فعلاً؟ جميعهم بُرئوا. هذا عيب كبير".
وأكد أوزال أن القضية تهدف إلى "خلق انطباع عدائي ضد المعارضة" عبر استخدام اتهامات ثقيلة، قائلا:
"حين تضع كلمة ’تجسس‘ في أي ملف، يتراجع الجميع خطوة إلى الوراء، لأن لا أحد يحب الجواسيس. إنها آخر أوراقهم: قالوا عنّا لصوصا ولم ينجحوا، اتهمونا بالفساد ولم يصدقهم الناس، قالوا إننا إرهابيون فثار الشعب ضدهم. والآن يقولون ’جواسيس‘ — هذا لن ينجح أيضاً".
وفي لهجة حادة، تابع زعيم المعارضة:"من يجرؤ على وصف أكرم إمام أوغلو بالجاسوس، فسأقول له إن كل من في طرابزون وإسطنبول سيواجهه وجها لوجه".
وتعد هذه القضية واحدة من مجموعة قضايا يواجهها إمام أوغلو في تركيا، وينظر إليها على نطاق واسع على أنها سياسية بحسب المعارضة، وتهدف إلى الحد من فرصه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، إذ يمثل حزب الشعب الجمهوري المعارض الذي ينتمي إليه إمام أوغلو أحد أبرز التحديات للسلطة الحالية في البلاد، وهو ما يجعل ملفه القضائي موضع متابعة محلية ودولية.
ويعكس هذا الملف القضائي الجديد تعقيدات المشهد السياسي في تركيا، إذ تظهر التحقيقات أن الصراع لا يقتصر على التهم المالية أو الإدارية، بل يتضمن عناصر تتعلق بالأمن القومي والتجسس الدولي، مما يزيد من حساسية القضية وتعقيدها، ويضع إمام أوغلو أمام تحد كبير في الدفاع عن نفسه وعن مستقبله السياسي وسط هذه الاتهامات الجسيمة.
كما تشير الوقائع إلى أن هناك تصعيدا متعمدا بين الحكومة التركية والمعارضة في إسطنبول، التي تعد أكبر مدينة تركية من حيث عدد السكان، ومركزا سياسيا واستراتيجيا مهما، وهو ما يعكس التوترات المحتدمة قبيل الانتخابات الرئاسية المقبلة، ويضع الجميع أمام واقع معقد يجمع بين السياسة والقضاء والأمن في آن واحد.
وفي ضوء هذه التطورات، تبدو الساحة السياسية التركية على أعتاب مرحلة جديدة من الصراع، حيث تجمع التحقيقات بين تهم التجسس والتلاعب بالانتخابات، في حين يواجه إمام أوغلو تحديا مزدوجا، سواء في الدفاع عن نفسه أمام القضاء أو الحفاظ على موقعه السياسي أمام خصومه، وسط مخاوف من تأثير هذه القضايا على المناخ الانتخابي في البلاد.