ملفات وتقارير

الانتخابات العراقية.. معركة توازن القوى وبسط النفوذ في بغداد

تولد صناديق الاقتراع توازنا جديدا يعيد للدولة رسم صورتها أمام الشارع العراقي- جيتي
يتجه العراق نحو انتخابات برلمانية حاسمة في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، وسط احتدام التنافس داخل "البيت الشيعي" وتزايد الدعوات للمقاطعة، بينما تسعى قوى سنية وكردية لتعزيز حضورها السياسي في ظل تراجع متوقع للمشاركة الشيعية.

وبين النفوذ الإيراني المتجدد والموقف الأمريكي الحذر، تجسد هذه الانتخابات صورة لقدرة الدولة العراقية على إعادة التوازن بين مكوناتها وحلفائها الإقليميين.

ومع بدء العد التنازلي للانتخابات البرلمانية في العراق، وهي السادسة منذ الغزو الأمريكي عام 2003، تتصاعد الخلافات والمخاوف بين الأحزاب العراقية والكتل السياسية، في ظل أجواء متوترة واغتيال أحد المرشحين السنة، إلى جانب تصاعد الشكاوى ضد رئيس الوزراء محمد شياع السوداني من نواب شيعة، بالإضافة إلى ضعف الاستقرار السياسي واقتراب مرحلة جديدة من الصراع على تشكيل الحكومة المقبلة.

من جانب آخر، تصاعدت خلال الأشهر الأخيرة المطالبات بمقاطعة الانتخابات البرلمانية، إذ أعلنت عشرات المنظمات المدنية والأحزاب الناشئة رفضها المشاركة، معتبرة أن النظام الانتخابي لا يعكس إرادة الشارع.



وشهدت الساحة الشيعية تصاعدا في التنافس، حيث قدم ستة نواب شيعة شكوى ضد السوداني وائتلافه "الإعمار والتنمية"، في خطوة اعتُبرت محاولة لإضعافه قبل الانتخابات.

وفي المقابل، اندلع خلاف غير معلن بين السوداني وسلفه نوري المالكي، تجلّى في خطابات متبادلة أمام شيوخ العشائر، عكست حجم الانقسام داخل "البيت الشيعي".

ويتنافس اليوم ثلاثة أقطاب رئيسية، وهم تحالف "الإعمار والتنمية" للسوداني، و"دولة القانون" بزعامة المالكي، ومنظمة بدر بزعامة هادي العامري، إضافة إلى قوى ناشئة تسعى لتمثيل مدني جديد بعيد عن الزعامات التقليدية.

وبدوره، جدد زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر في حزيران/يونيو الماضي دعوته لمقاطعة الانتخابات، ووجه لاحقا بمقاطعة 78 مرشحا من التيار الذين خالفوا توجيهاته، معلنا "البراءة" منهم، ووصف مشاركتهم بأنها "خيانة للنهج الصدري"، داعيًا إلى مقاطعتهم سياسيًا واجتماعيًا.

وفي ذات السياق، تواجه الانتخابات تحديات صعبة تتعلق بمدى حياد المؤسسات الأمنية، بعد تداول أنباء عن ضغوط على المنتسبين للتصويت لصالح جهات محددة.



وعلق زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر على هذه المزاعم قائلا: "أين الديمقراطية في ذلك؟ هذا تدمير لحرية الرأي"، داعيًا أفراد القوات الأمنية إلى رفض أي إملاءات سياسية، حيث أعادت هذه المخاوف إلى الواجهة سؤال الثقة في العملية الانتخابية، ومدى استقلال الأجهزة الأمنية عن الاستقطاب السياسي المستمر منذ عقدين.

ومن التوقع، أن يخسر المكون الشيعي نحو 12 مقعدا في محافظتي بغداد ونينوى بسبب ضعف مشاركة أنصار التيار الصدري في الانتخابات، في حين تشهد المحافظات السنية، ولا سيما الأنبار ونينوى وصلاح الدين، تحركات واسعة لحشد الناخبين وسط تحذيرات من محاولات تجنيس سوريين لأغراض انتخابية، فيما تخشى قوى سياسية أن يؤدي هذا التراجع في الإقبال الشيعي إلى تعزيز نفوذ الكتل السنية والكردية داخل البرلمان المقبل.

المفوضية تستبعد مئات المشرحين
استبعدت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات 786 مرشحا لأسباب تتعلق بقضايا جنائية أو شبهات فساد أو مخالفات انتخابية، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ الانتخابات العراقية، وبحسب آخر إحصائية رسمية، بينما بلغ عدد المرشحين 7709 أشخاص، أطلقوا دعايتهم في مطلع تشرين الأول/أكتوبر، عبر لافتات ومؤتمرات ولقاءات ميدانية.



النفوذ الإيراني الأعمق تأثيرا
تشير تقارير "معهد واشنطن للسياسات" إلى أن السلطة في العراق غالبا ما تختبئ خلف شبكات النفوذ الطائفي والمصالح والمليشيات والرعاة الإقليميين، ورغم محاولات المفوضية لإظهار توازن في العملية الانتخابية، إلا أن النفوذ الإيراني يبقى الأعمق تأثيرا، وإن اتخذ شكلا أكثر هدوءا ودبلوماسية.

وتعمل إيران، التي تدير نفوذها عبر أدوات سياسية وعقائدية واقتصادية، حاليا على إعادة تشكيل حضورها داخل مؤسسات الدولة، بدلا من العمل من خارجها، في محاولة لإعادة التموضع وتثبيت تأثيرها داخل قبة البرلمان وومفاصل الحكومة الشرعية أمام الأنظار الأمريكية.

وتفضل طهران التأثير الغير مباشر بدل الصدام العلني، من خلال ملفات الطاقة والتجارة والغاز والكهرباء، وهي وسائل تجعل أي حكومة في بغداد بحاجة إلى التنسيق معها، كما تحتفظ إيران بنفوذ داخل البرلمان من خلال كتل سياسية موالية لها، بينما تبقي ورقة المليشيات كورقة ردع عند الضرورة، تُستخدم لتثبيت التوازن لا لتفجيره.

الموقف الأمريكي
تنظر الولايات المتحدة إلى العملية الديمقراطية من زاوية أخرى، حيث تريد الحفاظ على استقرار أمني يمنع عودة تنظيم الدولة، وضمان توازن يمنع سيطرة إيران الكاملة على حكومة بغداد، واستمرار تدفق الطاقة.

وفق رويترز، فتبدي الولايات المتحدة قلقا من هيمنة إيران على العملية الانتخابية، لكنها تؤكد أن نتائج 11 تشرين الثاني تعود للعراقيين، مع مطالبة بتسريع تشكيل الحكومة بعد التصويت.

وفي السياق ذاته، عين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مبعوثا خاصا للعراق، في خطوة فسرها مراقبون بأنها إشارة إلى اهتمام أكبر بالملف العراقي، خصوصا بقضية الجماعات المسلحة، كما أجرى وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو اتصالًا هاتفيًا مع السوداني تناول قضيتي الانتخابات ونزع سلاح المليشيات.

وتستخدم واشنطن أدوات ضغط اقتصادية ودبلوماسية تشمل التحكم بسوق الدولار ومزادات العملة، وربط المساعدات بالإصلاحات وضبط السلاح، لكنها، كما تقول تقارير رويترز، لا تبحث عن نصر سياسي بقدر ما تسعى لتجنب الخسارة، عبر عراق مستقر لا يشكل عبئا أمنيا أو ساحة لنفوذ طهران.

الدور الإقليمي
في الشمال، تركز تركيا على أمن حدودها وملاحقة حزب العمال الكردستاني، إضافة إلى استثمار ورقة المياه والطريق الاقتصادي نحو المتوسط.

جنوبا، تميل دول الخليج العربي إلى سياسة انفتاح اقتصادي، من خلال مشاريع الربط الكهربائي والاستثمارات في الموانئ والطاقة المتجددة، بما يعكس رغبتها في عراق منتمي لجامعة الدول العربية، دون الدخول في محاور متصارعة.

كما أشارت وكالة أسوشييتد برس أن فرنسا أبدت اهتماما متزايدا بالملف العراقي، حيث أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون نيته زيارة بغداد، مؤكدا دعم بلاده لسيادة العراق واستقراره.

ملف المليشيات المعقد
تبقى المليشيات أحد أعقد الملفات، فهي تمثل قوة عسكرية واقتصاد تبعي وامتدادا سياسيا، حيث الاندماج المشروط داخل مؤسسات الدولة مقابل ضمانات سياسية واقتصادية، أو الانسحاب في حال تراجعت نفوذها داخل أروقة الحكومة، ما قد يؤدي إلى تصعيد أمني واضطراب اقتصادي.

وتتوقف شرعية الانتخابات على نسبة المشاركة، فالإقبال المرتفع يمنح أي حكومة قاعدة قوية، بينما المشاركة الضعيفة ستجعل البرلمان فاقدا للدعم الشعبي، وتدفع السياسة إلى خارج المؤسسات نحو تفاهمات غير رسمية بين القوى والجماعات المسلحة.



وتفرض المليشيات المسلحة التي تشارك بالفعل في الانتخابات المقبلة وتحظى بدعم مالي كبير، سيطرتها على مساحات واسعة من الأراضي في أطراف الموصل وسهل نينوى، حيث تعرقل عمليات الإعمار والبناء وتضع العراقيل أمام الأهالي الراغبين في تشييد منازلهم.

وتبرز تشكيلات "حشد الشبك" و"بابليون"، المدعومتان من قوى داخل الإطار التنسيقي، واللتان تبرّران قيودهما على البناء بذريعة "الحفاظ على التركيبة الديموغرافية"، فيما تكشف تقارير محلية أن الهدف الحقيقي هو تكريس النفوذ الاقتصادي والأمني عبر فرض إتاوات تصل إلى ثلاثة آلاف دولار مقابل السماح بالبناء.

وفي وسط استمرار هذا الوضع، يجعل هذه الفصائل في مواجهة مباشرة مع قرارات أمريكية مرتقبة تستهدف الحد من نشاطها، خاصة في ظل الشكاوى المتزايدة من مجلس محافظة نينوى حول انتهاك صلاحيات الحكومة المحلية وحقوق السكان.

وترى الكتل السنية أن بقاء هذا النفوذ دون معالجة يمثل تهديدا للاستقرار ولنزاهة العملية الانتخابية، وتدعو واشنطن إلى تحرك حاسم لنزع سلاح تلك الجماعات وإنهاء سيطرتها على الأراضي والمشاريع في شمال وغرب المحافظة.

وذكرت "أسوشييتد برس" أن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني يواجه استحقاقا مصيريا، إذ ستحدد الانتخابات إمكانية حصوله على ولاية ثانية.

ويسعى السوداني في الوقت الحالي لترسيخ صورته كإداري إصلاحي، عبر تحسين الخدمات العامة وضبط السلاح المنفلت، مع الحفاظ على توازن بين طهران وواشنطن والعواصم العربية، كما أن فرصته بالتمديد قائمة، لكنها مرهونة بصفقة اتفاق بين الكتل تضمن مصالح الداخل وشركاء الخارج.


وتطرح التقديرات ثلاثة سيناريوهات محتملة لما بعد إعلان نتائج الانتخابات، الأول يتمثل في ترسيخ الوضع القائم من خلال إعادة توزيع محدودة للمقاعد وتشكيل حكومة توافقية واسعة تضمن استمرار التهدئة الإقليمية، فيما يشير السيناريو الثاني إلى توازن جديد داخل المعسكرات عبر صعود تيارات إصلاحية داخل الأحزاب قد تمهد لضبط أكبر للمال والسلاح، أما السيناريو الثالث فيتعلق باحتمال نزاع سياسي وأمني ناتج عن ضعف المشاركة وتصاعد الخلافات حول رئاستي البرلمان والحكومة.

وبينما يترقب العراقيون ما ستفرزه صناديق الاقتراع من برلمان جديد، يظل السؤال الأهم بعد النتائج، من يحكم فعليا؟ فنجاح القوى السياسية في تثبيت معادلة "سلاح واحد، ومال خاضع للرقابة، وعلاقات متوازنة مع دول الجوار" قد يجعل من الانتخابات بداية مرحلة سياسية جديدة، أما الفشل في ذلك فسيبقي الدولة رهينة الانقسام، تُكتب القوانين في العلن وتُدار السلطة في الظل.