سَيكتشف العالم تدريجيا بعد توقف العدوان على
غزة حجم
الإبادة الجماعية التي ارتكبها الكيان الصهيوني ضد شعبها الصامد، بل سيكتشف المعنى الحقيقي لهذا الصمود وأبعاده، ويعرف بالنتيجة أن مواجهة عدو غاشم لا يأبه بالقوانين والأعراف الدولية، ولا يتردد في استخدام كافة الأساليب غير الأخلاقية لتحقيق أهدافه، وكافة الأنظمة المعلوماتية غير المسبوقة، إنما هي مواجهة فريدة من نوعها عبر التاريخ.
من بين أساليب الإبادة التي بدأت وسائل الإعلام العالمية تُسلِّط عليها الضوء النظام المعلوماتي المعروف باسم “where’s my daddy” الذي يشتغل بالذكاء الاصطناعي ويُحدِّد الأشخاص الذين ينبغي اغتيالهم وهدم البنايات على رؤوس قاطنيها.
يقوم هذا النظام بِتَتبُّع سكان قطاع غزة عبر شبكات الاتصال وأنظمة تحديد الموقع والمعلومات الميدانية التي يحصل عليها من خلال العملاء، ويُقيِّم كل فرد –بمن في ذلك الأطفال– بعلامة تتراوح بين الصفر والمائة، وكلّما اقترب رصيده من قيمة يجري تحديدها مسبقا للنظام ولتكن 50% ، يجري استهدافه وعائلته ومنزله حتى لا يبقى له أثر. وعادة ما يوضع سقفٌ أقل بكثير من 50 %!
أما إذا زاد عن ذلك فالمهمة تكون أسرع وبحجم متفجرات أكبر… وهكذا، لم يبق من سكان غزة أي فرد غير مراقَب من قبل هذا النظام! على مدار الساعة يجري تحديث التقييمات وعمليات القصف الآلية، في كثير من الأحيان، من دون أيِّ تدخل من البشر! يكفي أن يُحدِّد هذا النظام المعلومات المتعلقة بالشخص أو مجموعة الأشخاص المستهدَفين لتقوم أنظمة معلوماتية أخري مثل Lavender وGospel the بالإشراف على تنفيذ الضربة بصواريخ تحملها طائرات حربية أو طائرات من دون طيار تكون مُعدَّة لذلك سلفا.
كان عدد العمليات التي يقوم بتنفيذها نظام The Gospel مثلا لا يزيد عن المائة عملية في الشهر
ولم يكن هذا الأسلوب بجديد على جيش الإبادة، لكنه في العدوان على غزة تمكَّن من رفع وتيرة استخدامه إلى أقصى الدرجات. كان عدد العمليات التي يقوم بتنفيذها نظام The Gospel مثلا لا يزيد عن المائة عملية في الشهر، فإذا بها أصبحت أكثر من 100 عملية في اليوم!
ولذلك كان يتزايد عدد الشهداء يوميًّا، ويزداد عدد البنايات المُدمَّرة، وكثيرا ما كانت الأهداف عبثية لا تؤدي إلا إلى رفع أعداد الشهداء. ولم يكن العدو الصهيوني يأبه بذلك ما دامت الآلة ومادام الذكاء الاصطناعي قد قرّر أنه ينبغي الضرب في هذا المكان لأن فيه فلسطينيًّا تجاوز التقييم الإلكتروني العتبة المُحدَّدة له!
ويُسمِّي جيش الإبادة الإسرائيلي هذا الأسلوب “استخدام الذكاء الاصطناعي في الحرب”، ويعتبر ذلك تفوُّقا في مجال التكنولوجيا العسكرية، ويُهدِّد بها جميع من حوله. ولعل هذا هو مفهوم اليد الطويلة الصهيونية التي يمكنها أن تطال كل فرد في محيطها المباشر وغير المباشر. وهكذا فعلت مع قادة المقاومة الذين اغتالتهم إِنْ في قطاع غزة أو في لبنان أو إيران أو العراق وسورية، وآخر العمليات كانت في قطر من خلال المحاولة الفاشلة لاستهداف قادة حركة حماس المجتمعين في الدوحة في 9 سبتمبر الماضي…
ومع كل ذلك، لم تُفلِح هذه الأساليب، في كسر إرادة شعب أراد الحياة وضحى بكل ما يملك من أجل البقاء في أرضه، وقد فعل، وبَيَّن أن التفوُّق التكنولوجي وإنْ صنع الفارق من حيث القدرة على التدمير لا يمكنه أبدا أن يصنع الفارق من حيث القدرة على الصمود والمقاومة لأجل انتزاع الحقوق المشروعة في الاستقلال والعيش حياة كريمة.
وقد كانت هذه هي الغاية الأولى من معركة “طوفان الأقصى”، وهي الآن تتحقق برغم الثمن الغالي الذي دُفع!
أما الغاية الأكبر التي تتعلق بنا جميعا، وليس فقط بالشعب الفلسطيني، أنه ينبغي علينا الاستعداد من الآن لحروب المستقبل، ذلك أنه إذا كانت الإرادة هي العامل الحاسم في أي معركة، فإن التسلح بالأدوات التكنولوجية المضادة، واستباقها بالاحتياط والوقاية من خلال حماية بياناتنا الفردية والجماعية، يبقى ضرورة لردع أي عدو ومنعه من إلحاق الأذى بنا كأفراد وكأقاليم وكدول.. لقد قدّمت لنا غزة الدرس، ومنها ينبغي أن نتعلم أساليب مواجهة التهديدات الجديدة في المستقبل…
الشروق الجزائرية