مقالات مختارة

“إسرابارطة” وتصعيد حرب الإبادة

الأناضول
من النادر القبض على نتنياهو متلبّسا بقول الحقيقة، وقد حدث ذلك فعلا الإثنين الماضي، حين طلع رئيس الوزراء الإسرائيلي بتصريح أن إسرائيل هي “سوبر سبارطة” وأنه لا مفر لها من ذلك. جاء كلام نتنياهو في خضم تصعيد حرب الإبادة في غزة، وشروع جيش الاحتلال باجتياح شامل لمدينة غزة بهدف تهجير سكّانها، وتدمير مبانيها وتسويتها بالأرض، ومحاولة حسم المعركة مع فرق حماس في المدينة.

ويوفّر اختيار “سبارطة” كمفهوم وكنموذج، دليلا على نوايا مواصلة الحرب لسنوات طويلة، “تضطر” فيها الدولة الصهيونية إلى أن تكون ثكنة عسكرية مدججة بالسلاح. ويمكن ترجمة أقوال نتنياهو بأنّها الجواب الإسرائيلي على السؤال التوراتي “هل إلى الأبد تأكل السيف؟”، بردٍّ لا يقبل النفي “إلى الأبد تأكل السيف!”، بعد استبدال علامة الاستفهام بعلامة التعجّب.

إسرائيل ـ نتنياهو ماضية في تصعيد حربها الإجرامية، وطالما هي لا تواجه ما يصدّها، ولا من يوقفها، فهي ترى أن عندها ضوءا أخضر عامّا لاجتياح غزة وتهجير أهلها وتسويتها بالأرض. فقرارات القمة العربية ـ خفيفة اللهجة والمضمون – لم تحمل ما يمكن أن يردع إسرائيل عن التصعيد، والتهديدات الأوروبية بفرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل ما زالت تحت عتبة التأثير الفعلي على قرار الإبادة الإسرائيلي، وتقارير الأمم المتحدة والمنظمات الدولية حول الإبادة والتجويع في غزة، لا تثني المجرم الغارق في ارتكاب جريمته، عن الإمعان في اقتراف المزيد من الفظائع.

كما أن مسار الاعترافات الجديدة بالدولة الفلسطينية، على أهميّته، لا يتقاطع مع ما يحدث، وما سيحدث في غزة من أهوال مروّعة، وتستغله الحكومة الإسرائيلية للاستفادة منه، بأخذ إذن من إدارة ترامب بضم مناطق من الضفة الغربية إلى إسرائيل، كرد على ما تسميه “خطوة أحادية الجانب”. أمّا المعارضة الداخلية في إسرائيل، فما زالت تراوح تحت مستوى التأثير. وباستعارة من فيزيولوجيا الأعصاب، فإن إسرائيل اليوم في حالة جموح لا استجابة فيها للمؤثّرات مهما كانت قوية.

القيادات والنخب الأمنية تعارض بشدة وبشكل علني العملية العسكرية الجديدة، وأهالي المحتجزين يستنجدون ويصرخون خوفا على مصيرهم، والشارع الإسرائيلي بالمجمل يؤيّد صفقة تحرير المحتجزين وإنهاء الحرب فورا. كل هذا لا يؤثّر على قرار نتنياهو المندفع بجموح نحو التصعيد الإجرامي. التأثير مؤجّل إلى ما بعد انتهاء حالة الجموح (كما في الأعصاب)، ونتنياهو يعرف ذلك وهو لن ينهي الحرب إلّا بعد أن يتيقّن أن هذا التأثير لن يزيحه عن كرسي السلطة.

في الواقع، ليس هناك من يدعم الآن حرب الإبادة الجارية في غزة سوى طرفين: الائتلاف الحكومي اليميني المتطرّف، وأذرعه الإعلامية وقاعدته المتشدّدة، وإدارة ترامب اليمينية المتطرّفة أيضا، وقاعدتها وامتداداتها المختلفة. نتنياهو اليوم لا يتأثر إلا بما يجري في ائتلافه وعند حليفه الجمهوري في واشنطن. والطريق لوقف الحرب هي بالتهديد الجدّي بفرض عقوبات شديدة، وقطع جماعي للعلاقات مع إسرائيل، والضغط على الإدارة الأمريكية حتى تلجم حليفها المنفلت، وهذ يتطلب من الدول العربية استعمال سلاح “الصفقات” المشروطة بتغيير السياسة الأمريكية بخصوص غزة.

التصعيد
يصل عدد الجنود الذين تدفع بهم آلة الإبادة الإسرائيلية لتنفيذ المراحل المختلفة لعملية “عربات جدعون 2” إلى ما يزيد عن 100 ألف جندي من الاحتياط، ومن القوات النظامية. وتفيد المصادر الإسرائيلية، استنادا إلى تقديرات عسكرية ومخابراتية، بأن عدد أفراد حماس المنظمين في كتيبة غزّة يصل إلى 2500 مقاتل. ويشير هذا الفرق العددي الهائل إلى أن هدف العملية أكبر بكثير من القضاء على الوحدات العسكرية لحماس، وإلى أن “جالوت الإسرائيلي” يعمل مئة ألف حساب لـ”داوود الفلسطيني”.

تقليديا، يعتمد الجيش الإسرائيلي على معادلة أن القوات المهاجمة يجب أن تكون ثلاثة أضعاف القوات العسكرية المدافعة، وفي حال “حرب المدن” تكون خمسة أضعاف، وتنخفض النسب في حالات توفّر الإسناد الجوي. لماذا إذن تلجأ إسرائيل إلى الاعتماد على عشرة أضعاف ما يلزم من قوات لمهاجمة مدينة غزة واحتلالها الكامل؟ لو اقتصر الأمر على استهداف مقاتلي حماس وحدهم، لاحتاج الجيش الإسرائيلي، انطلاقا من استراتيجيته المعهودة، إلى عشرة آلاف جندي في أصعب الأحوال.

لكن هذا الكم الهائل من القوات موجّه لاقتلاع أهالي غزة بالكامل من مدينتهم عبر تمشيط المدينة شبرا شبرا، وتهيئة الظروف لتهجيرهم وتهجير غيرهم إلى خارج القطاع. اعتقد البعض، حتى مؤخّرا، أن هناك تهويلا حول حجم القوات الإسرائيلية، التي يجري حشدها لاحتلال مدينة غزة بالكامل، بهدف الضغط على حماس لتقبل بالشروط الإسرائيلية للصفقة، لكن لا صفقة على الطاولة أو تحتها، ونتنياهو حسم الخيار العسكري كخيار وحيد إلى حين تحقيق ما يسمّيه “النصر المطلق”، إمّا بالحسم العسكري المباشر، أو باستسلام حماس تحت وطأة الإبادة والدمار والتجويع. وكما قال المؤرّخ العسكري الفرنسي بيير رازو، فإن عربات جدعون 2 “ليست جزءا من منطق الغزو التقليدي، بل تندرج في إطار منطق التدمير الشامل”.

ضوء أخضر أمريكي
رسميا، لم تعلن الإدارة الأمريكية موقفها من عملية “عربات جدعون 2”. وكتب الصحافي ميشيل كراولي، الذي رافق وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، في زيارته هذا الأسبوع لكل من إسرائيل وقطر، أن “موقف عدم التدخّل الأمريكي منح نتنياهو تصريحا مفتوحا للتصعيد في غزّة. وأورد كراولي في مقاله في صحيفة “نيويورك تايمز”، أن إسرائيل أرادت القيام بالعملية ذاتها مطلع العام الماضي، لكن إدارة بايدن هددت بعدم تزويد إسرائيل بالأسلحة والذخائر اللازمة، “إلّا إذا قدمت خطة موثوقة وقابلة للتنفيذ لحماية المدنيين”، وترامب غير مبال لمصير المدنيين في الشرق الأوسط، إلّا إذا كانوا من الإسرائيليين.

وحين سئل ترامب عن موقفه من حملة التصعيد الإسرائيلي الأخيرة، قال: “عليّ أن أرى ـ أنا لا أعرف عنها الكثير”. وفي تصريحات أخرى هاجم حماس ودعا إلى القضاء عليها. أما وزير خارجيته فقد أعلن في مطلع زيارته الأخيرة للشرق الأوسط، أنّه لا ينوي الضغط على نتنياهو وأنه يودّ “أن يسمع أكثر من أن يتحدّث”، وقال عن الإسرائيليين: “هذه حربهم وهم سيقررون كيف يواصلون، لأنّهم الطرف الذي هوجم في السابع من أكتوبر”.

أقل ما يقال في الموقف الأمريكي إنّه ضوء أخضر لارتكاب المزيد من جرائم الحرب في غزة، فإسرائيل تقتل وتدمّر بسلاح أمريكي، وتحتمي بالفيتو وبالقبة الدبلوماسية الأمريكية، وتعتمد على المساعدات الاقتصادية الأمريكية، وكل طفل مات من القصف، أو من الجوع في غزة هو ضحية العدوان الأمريكي على الشعب الفلسطيني، وليس العدوان الإسرائيلي فحسب.

وموقف الإدارة الأمريكية، الذي يترك لإسرائيل “حرية التصرف” في ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإفناء والتدمير الشامل، يعني شراكة كاملة في الجريمة، وليس مجرد دعم لها من الخارج. إدارة ترامب ماضية في موقفها هذا لأنّها لم تلمس عربيا وإسلاميا ودوليا ما يستدعي التغيير.

إسرابارطة
من بين زعماء العالم والقادة الصهيونيين، لم يكن نتنياهو أوّل من تحدّث عن خيار “سبارطة”. فقد سبقه موسوليني، الذي رأى في العسكرة وروح الجماعة السبارطية مصدر إلهام للفاشية الإيطالية. ومن بين القادة الصهاينة، الذين ربطوا بين إسرائيل وسبارطة، نجد حلم بيرل كاتسنلسون الاشتراكي، بأن تكون شخصية “المواطن المحارب” مثالا يحتذى به “جيل جديد في أرض إسرائيل”. وشبّه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحيم بيغين إسرائيل بسبارطة “الصغيرة التي تحارب محيطا معاديا”.

وشدد الجنرال موشي ديان على أن إسرائيل مثل سبارطة وليس مثل أثينا، باعتبارها دولة “دائمة التأهب لما قد يصيبها”. وما قاله نتنياهو لم يكن زلّة لسان، فلديه معرفة واسعة بالتاريخ، ويفاخر دائما بأن والده كان مؤرّخا، وحين قال “سبارطة لا بل سوبر سبارطة”، فهو يعنيها بمعناها المتداول والمعروف، كان كلامه توصيفا للحالة الإسرائيلية، التي تماثل في الكثير من جوانبها الحالة السبارطية. لكن نتنياهو يقصد أبعد من ذلك، فلديه “مشروع سبارطة” كمبدأ ناظم في سلوك إسرائيل تجاه ذاتها وفي التعامل مع الشعب الفلسطيني ومع المحيط الإقليمي. وحين يتحدّث نتنياهو عن تغيير الشرق الأوسط، فهو يريد ترويع المحيط بأن هناك سبارطة في الشرق الأوسط، وعلى الجميع أن يتعامل (ويتعاون) معها برعب وباحترام في الوقت نفسه.

لا حاجة للذهاب بعيدا بحثا عن معالم الشرق الأوسط الجديد، الذي يتحدث عنه بنيامين نتنياهو، فهو ماثل أمامنا بأبشع صوره. هذا الجديد يعني السماح لإسرائيل بذبح الشعب الفلسطيني، والشرق الأوسط “الجديد” يتفرّج. وهذه الفظاعة، من أهم مقوّمات ما يسعى نتنياهو لفرضه: فك الارتباط بين العرب وفلسطين. ورسالة نتنياهو أن الدولة الصهيونية هي إسرائيل-سبارطة وباختصار “إسرابارطة”، ويجب على “الشرق الأوسط الجديد” التسليم أن من طبعها ومن حقّها أن تنفلت وتعتدي وتبطش وتفتك وتدمر ولا أحد يحاسبها. لكن فات نتنياهو أن سبارطة نفسها انهارت وانتهت ولم تحمها قوّتها العسكرية من التفكك والاندثار.

القدس العربي