تدخل حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل عسكريا وسياسيا وإعلاميا ضد الشعب الفلسطيني في
غزة أخطر مراحلها في الأيام والأسابيع المقبلة، حيث تستهدف المرحلة الجديدة من الحرب إبادة الكتلة السكانية الرئيسية في مدينة غزة عاصمة القطاع، وإنهاء وجود المقاومة التي لا تزال تقاتل مع الشعب من أجل بقائه على أرضه، ولا تزال تسعى لهزيمة مخطط الإبادة، الذي لن ينجو منه أحد في حال نجاحه، سواء بالقتل أو التهجير. وقد أصبح على المقاومة في غزة، أكثر من أي وقت مضى، أن تخلع سترة «الأيديولوجية» وأن ترتدي زِيَّ «الهوية الوطنية»، ما يفتح صفوفها على أوسع نطاق ممكن، لاستيعاب القوى العشائرية والمدنية والسياسية المتنوعة، التي تتفق معا على هدف الدفاع عن بقاء الشعب الفلسطيني على أرضه.
قد يبدو للبعض أن معركة غزة التي بدأت بالفعل هي مجرد استمرار تلقائي للحرب منذ أكتوبر 2023، لكن الحقيقة هي أنها المعركة الفاصلة التي ستقرر لعقود مقبلة من الزمن شكل وموضوع حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وإقامة دولته المستقلة ذات السيادة على أرضه. وكما قلنا منذ اليوم الأول لهذه الحرب فإن انتصار الشعب الفلسطيني يقوم على مقومات تحويل المقاومة إلى مشروع سياسي جامع، غير فصائلي، وغير أيديولوجي، يتسع لكل القوى الوطنية المؤمنة بالحق الفلسطيني في وطن آمن ودولة مستقلة ذات سيادة.
ورغم الظروف الإقليمية القاتمة التي تحيط بالمقاومة، ومنها سقوط الجبهة السورية، وهشاشة الجبهة اللبنانية، والتواطؤ العربي المهين، فإن القوى العالمية الرافضة لحرب الإبادة، والداعية إلى سلام دائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين، على أساس حل الدولتين قد اتسعت وازدادت قوتها إلى ذروة لم تبلغها من قبل. ما يمثل انقلابا إيجابيا في الدبلوماسية الدولية.
ومع هذا الانقلاب، فإن مكانة الدبلوماسية تتفوق على رصاص البندقية، ما يجب أن تأخذه المقاومة في اعتبارها بالتنسيق مع قوى الضمير العالمي والدبلوماسية المناهضة للحرب.
إن تحول الرأي العام العالمي، ومواقف حكومات معظم دول العالم ضد حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل هو مفعول المقاومة والصمود الفلسطيني. ويترجم هذا التحول خمس حقائق جوهرية، من شأنها إعادة توجيه استراتيجية تسوية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي إلى مسار جديد مستدام.
الحقيقة الأولى، هي أن العالم كله، باستثناء إسرائيل والولايات المتحدة، وحفنة قليلة جدا من الدول الخاضعة للنفوذ الصهيوني، لم تعد ترى حرب الإبادة ضد الفلسطينيين على أنها حرب إسرائيلية للدفاع عن النفس. لقد سقط القناع الصهيوني الذي كان يتستر به جيش
الاحتلال والدبلوماسية الإسرائيلية، في تصوير إسرائيل على أنها ضحية، وأن حربها على الفلسطينيين هي حرب تكتسب شرعيتها من حق الدفاع عن النفس. وقد عبر كاسبر فيلدكامب وزير الخارجية الهولندي، الذي استقال يوم الجمعة الماضي، احتجاجا على سياسة حكومة بلاده تجاه إسرائيل، عن هذا الموقف في حوار مع القناة 12 الإسرائيلية، مؤكدا أن هذه الحرب «لم تعد حربا دفاعية ومبررة»، وأن «حكومة نتنياهو فقدت شرعيتها في نظر العالم».
وأوضح موقفه قائلا: «بصفتي صديقا لإسرائيل، أعتقد أنه يجب عليّ الآن التحذير، من أن العملية العسكرية في مدينة غزة، والإجراءات الحالية التي تتخذها حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تُلحق الضرر بأمن إسرائيل، وفي نهاية المطاف بهويتها». وكان فيلدكامب قد شغل منصب سفير بلاده في إسرائيل بين عامي 2011 و2015.
الحقيقة الثانية، التي نتجت عن استمرار الصمود والمقاومة، هي أن القضية الفلسطينية لم تعد مجرد قضية دولية يتم تداولها داخل المنظمات والمؤتمرات الدبلوماسية فقط، وإنما أصبحت الآن في ظل حرب الإبادة قضية سياسية محلية في الدول الديمقراطية، بإمكانها أن تسقط حكومات وتقيم حكومات، وأن تلعب دورا رئيسيا في تشكيل توجهات الناخبين حتى في الولايات المتحدة. إن المقاومة وصمود الشعب الفلسطيني ما زالا محرك صعود مكانة الحق الفلسطينية إلى مستوى القضية السياسية الداخلية، في بلدان مثل هولندا وفرنسا وبريطانيا وكندا وأستراليا، ومن قبلها في أيرلندا وإسبانيا وجنوب افريقيا وتشيلي وغيرها من دول العالم، وهو ما لم يحدث من قبل في تاريخ الكفاح الفلسطيني الممتد لأكثر من 100 عام.
وحتى في الولايات المتحدة، التي تمثل حاليا معقل نفوذ الحركة الصهيونية العالمية، فإن التيار الليبرالي داخل الحزب الديمقراطي والمنظمات المدنية، يعيد تشكيل نفسه حول الموقف من حرب الإبادة، وحق تقرير المصير الفلسطيني. وتجسد انتخابات منصب عمدة نيويورك، التي يخوضها الأمريكي اليساري المسلم زهران ممداني، صورة واضحة لعملية إعادة التشكل هذه، التي تشارك فيها منظمات يهودية ليبرالية، تعارض وحشية التيار الصهيوني المتطرف في إسرائيل.
الحقيقة الثالثة، تتمثل في تهاوي نفوذ تهمة العداء للسامية إلى الحضيض، وفقدان مصداقيتها وسقوط قدرتها على ردع مناهضي سياسة الحرب الإسرائيلية، قياسا بما كان عليه الحال في الأسابيع الأولى لحرب الإبادة. وقد أدى توسيع نطاق إلصاق تهمة العداء للسامية بكل معارضي الحرب والمتضامنين مع الحق الفلسطيني من المفكرين والكتاب والفنانين والمبدعين على مستوى العالم، إلى تفريغ التهمة من مضمونها، وترسيخ ردود الفعل المعارضة لسياسات حكومة نتنياهو الوحشية، في حرب الإبادة ضد الفلسطينيين.
حكومة إسرائيل تستخدم تهمة العداء للسامية، من أجل ابتزاز معارضي سياستها وتخويفهم
وأصبح معروفا لدى الدوائر والمؤسسات والشخصيات السياسية في العالم، أن حكومة إسرائيل تستخدم تهمة العداء للسامية، من أجل ابتزاز معارضي سياستها وتخويفهم، والاستمرار في انتهاك القانون الدولي وارتكاب مذابح الإبادة ضد الفلسطينيين، على غرار ما حدث في مجمع ناصر الطبي يوم الاثنين الماضي، عندما تم استهداف أطقم إسعاف، حيث قتلت 20 مريضا وطبيبا وصحافيا في عملية وحشية.
الحقيقة الرابعة، تعميق الانقسام الداخلي الإسرائيلي المتعدد المحاور والمستويات، وكشف الخلافات بين أطراف الانقسام على أوضح ما يكون. هناك أولا الانقسام بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية، ومع أنه وصل إلى حد إقالة وزير الدفاع ورئيس الأركان بواسطة نتنياهو، وتعيين بديلين لهما، فإن رئيس الأركان الجديد إيال زامير يعيد تأكيد وجود الخلاف مؤكدا أن على القيادة السياسية الاختيار بشكل قاطع بين هدف التخلص من حماس، وهدف استعادة المحتجزين، لأنه لا يمكن تحقيق الهدفين معا من الناحية العسكرية.
وقد كانت هذه وجهة نظر يوآف غالانت وهيرسي هاليفي من قبل. جديد زامير الذي أعلنه في قاعدة حيفا البحرية يوم الأحد الماضي، أن هناك صفقة لتبادل المحتجزين معروضة على الطاولة، وان على الحكومة أن تفكر جديا في العمل، طبقا لها بدلا من عملية غزة الجديدة. وهناك ثانيا الانقسام بين نتنياهو والرأي العام بخصوص مصير المحتجزين، وهناك ثالثا الانقسام بين اليمين الصهيوني الديني المتطرف، والمعارضة السياسية، وهناك رابعا الخلاف العميق بين المتدينين والعسكريين حول إعفاء المتدينين من الخدمة العسكرية.
ويبدو حاليا أن تأثير الداخل الإسرائيلي على مستقبل الأوضاع في غزة، يمكن أن يصبح رقما مهما في معادلة إنهاء الحرب، ويفتح الطريق للتوصل إلى صيغة صحية للتعايش (بعد فترة انتقالية ضرورية سياسيا ونفسيا) الفلسطيني – الإسرائيلي.
وقد استطاع منتدى أُسَر الغائبين والمحتجزين خلال الأسابيع الأخيرة، أن يحشد عشرات الآلاف من أجل صفقة لاستعادة المحتجزين، حتى لو كان ثمنها هو إعلان وقف الحرب. ومع اتساع نطاق الرفض الداخلي لاستمرار الحرب فإن نتنياهو وجد نفسه في موقف دقيق جدا، محشورا بين تصميمه في مواصلة حرب الإبادة حتى النهاية، والرضوخ لرغبة قطاعات أصبحت تمثل الأغلبية بين الإسرائيليين في وقف الحرب، والعمل على إصلاح المؤسسات والتشكيلات العسكرية وعلاج التشوهات التي تعرضت لها خلال الحرب، التي تدخل عامها الثالث بعد أسابيع.
ورغم أن الخبرة الفلسطينية من مواقف القوى الكبرى في العالم تجاه إسرائيل غير مشجعة، إلا أن الأسابيع الأخيرة سجلت افتراقا واضحا في الدبلوماسية الغربية بين الموقف الأمريكي المؤيد لإسرائيل تأييدا مطلقا، والموقف الأوروبي- الآسيوي- الكندي المؤيد لوقف الحرب والاعتراف بوجود
الدولة الفلسطينية المستقلة، ضمن تسوية سياسية دائمة على أساس حل الدولتين.
الحقيقة الخامسة، باستثناء الدور الذي تقوم به مصر وقطر في المفاوضات المباشرة لوقف الحرب، والدور الذي تقوم به حكومة صنعاء في شن هجمات صاروخية على إسرائيل فإن الدول العربية الأخرى النشيطة في دبلوماسية الشرق الأوسط تبني موقفها انطلاقا من العداء لحماس ومشاركة إسرائيل الرغبة في تصفيتها، وهو ما تسبب في هشاشة الدور الحكومي العربي، نتيجة سياسات التواطؤ مع حكومة نتنياهو. هذه الحقيقة تقدم مبررات قوية لضرورة إخراج القضية الفلسطينية من عباءة الوصاية الحكومية العربية.
القدس العربي