حين يتم الحديث في ما إذا كان الشعب العربي في مختلف أقطاره، يتحمل مسؤولية سكوت الأنظمة العربية، عن الجريمة الصهيونية المستمرة في
غزة منذ أكثر من 700 يوم، يجادلك البعض بأن عدم وجود حراك شعبي يجبر النظام الرسمي العربي على الوقوف الى جانب أهلنا في فلسطين عامة وفي غزة خاصة، سببه أن هذه الأنظمة بات لديها من الوسائل القمعية ما يكفي للقضاء على كل اعتراض لسياساتها، وأنها أنظمة بوليسية قمعية شمولية لا تتورع عن استخدام الأجهزة الأمنية والشرطية، بل حتى الجيوش الوطنية، في القضاء على كل تحرك شعبي يتناقض مع أجندتها، حتى إن كان سلميا..
وهم في هذا التبرير يجعلونك أمام فكرة الراعي والقطيع، أو العبد والسيد، ويحولّون الشعوب، من حيث يعلمون أو لا يعلمون، إلى مجرد بيادق لاحول لها ولا قوة، ولا عقل ولا ضمير، ولا إرادة ولا تفكير ولا وعي ولا بصيرة. وهذا اتجاه يتنافى تماما مع الأدوار التاريخية للشعوب في صناعة الحياة.
لقد أنفقنا ردحا طويلا من الزمن، ونحن نلعن سياسات النظام الرسمي العربي. وفي غمرة تركيزنا على عيوب الحاكم وعوراته السياسية، التي لا يمكن سترها، تغاضينا عن عيوب الشعوب وغياب وعيها بحاضرها ومستقبلها. وفي كل مرة نلقي بهذه العيوب على كاهل الحاكم، وكأنّ الحاكم هو المالك الوحيد لإرادتنا ونحن مُسيّرين بأمره من دون وعي. فإذا كانت الأنظمة العربية قد امتلكت كل وسائل القمع، ما مكنها من البقاء على قيد الحياة وفي السلطة عقودا من الزمن، كما يزعم البعض، فإن الشعوب امتلكت هي أيضا ما يوازي ذلك من الوسائل المُضادة، التي تجعلها قادرة على التصدي لإجراءات الحاكم لو وعت دورها، واستثمرت بصورة صحيحة في تلك الوسائل بالطريقة الصحيحة.
فلو تصفحنا التاريخ السياسي الحديث للمنطقة العربية، لوجدنا أن حركة الشعب العربي في بلداننا العربية كانت متناسقة تماما مع حركة التاريخ، بمعنى أن الشعب العربي كانت أدواره متوافقة مع المسؤولية التاريخية الملقاة عليه. ولو لم يكن هو كذلك لما كانت
التظاهرات تعم الشوارع العربية في كل بلد عربي، نصرة لأهلنا في الجزائر في ثورتهم المباركة ضد
الاحتلال الفرنسي، ومثلها نصرة لأهلنا في مصر أبان العدوان الثلاثي، وغيرها من أحداث عربية في مختلف الأقطار، بل لو لم يكن الوعي التاريخي للدور الشعبي موجودا في بلداننا العربية، لما وجدنا المنظمات الفدائية الفلسطينية، تعج بالشباب العربي، بين ستينيات وسبعينيات وبداية ثمانينيات القرن المنصرم.
إن النظام الرسمي العربي الذي كان يستجيب لمتطلبات المرحلة العربية، ولو في حدودها الدُنيا، في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، لم تكن استجابته تلك بدافع ذاتي ولا بإرادته هو، بل كانت بإرادة الشعب العربي الذي كان قد امتلك وعيه وعرف طبيعة دوره. صحيح لم يكن النظام الرسمي العربي بعد قد فتح السجون السرية والعلنية لتملأ كل زاوية من زوايا الوطن، ولا بنى أجهزة أمنية ومخابراتية تتنصت على كل كلمة تخرج من أفواه الناس، ما شكّل فسحة واسعة للحراكات الشعبية المعارضة. لكن في الوقت نفسه كانت الجماهير العربية أيضا في تلك الفترة، لا تمتلك الوسائل الفاعلة التي تهز عرش السلطان فيضطر للاستجابة لها.
إذن كان هناك تعادل في ميزان الوسائل الضاغطة بين الطرفين، بين الحاكم والمحكوم، أما اليوم فعندما يبرر البعض السبات الجماهيري العربي أمام قضايا الأمة، وخاصة سباته أمام ما يحدث لأهلنا في غزة، بالقول إن النظام الرسمي العربي قد تغوّل في قمع الشعب بوسائل كثيرة، إلى حد أن البعض منهم أصدر قرارات منع التظاهرات المؤيدة لغزة، ما عرقل حركة الشعب، فإن السؤال المطروح يقول، هل وحده النظام الرسمي العربي من امتلك وسائل أقوى من قبل للتأثير على الشعب؟ ألم يمتلك الشعب وسائل أقوى للتأثير على الحاكم أيضا؟
معادلة التأثير من الأعلى الى الأسفل قد تغيرت كثيرا، لكنها لم تتغير من طرف واحد فقط
نعم إن معادلة التأثير من الأعلى الى الأسفل قد تغيرت كثيرا، لكنها لم تتغير من طرف واحد فقط، بل تغيرت معادلة التأثير أيضا من الأسفل الى الأعلى، فإذا كانت سجون الحاكم قليلة من قبل، وأحكامه لا تصل إلى حالة الإعدام إلا ما ندر، كأدوات إرهاب بيد السلطة، فإن الشعوب هي الأخرى كانت تعتمد المنشور الورقي وشعارات الجدران لتحقيق أهدافها.
أما اليوم ففي مقابل أجهزة قمع السلطة التي تطورت كثيرا عما مضى، توجد وسائل التواصل الاجتماعي، التي هي أقوى سلاح بيد الجماهير للضغط على الحاكم، وهي أهم سلاح بيد الجماهير لإيصال صوتها الى العالم الخارجي، فإذا كان الحاكم قد استخدم أسلحته الجديدة أنجع استخدام ضد تطلعات الجماهير، فهل أستخدم الشعب العربي هذا السلاح كوسيلة لتعميق دوره الجماهيري في نصرة قضايا أمتنا العربية؟
الجواب تجدونه في المقارنة القائمة بين الأعداد المليونية التي تتابع تفاهة ما تعرضه الفانشيستات، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، على سبيل المثال، والأعداد التي لا توازيها ممن يتابعون ما يحدث في غزة الباسلة، عبر مواقع إلكترونية تهتم بنقل ذلك. قد يقول قائل إن في الغرب أيضا هناك الملايين ممن يتابعون مطرب ما، أو صانعة محتوى تافه، ونقول نعم هو كذلك، لكن الفرق هو في الموازنة ما بين العام والخاص، فعلى الرغم من الملايين الذين يتابعون المواقع تافهة المحتوى، كاهتمامات شخصية، هؤلاء أيضا يعطون المساحة نفسها للشأن العام، خاصة الإنساني.
إن حالة النكوص في الوعي الجماهيري العربي، مرده تغليب الخاص على العام، إلى الحد الذي لم تعد هناك من فسحة للشأن العام، لذلك تغلب علينا السريلانكيون والأفغان في حركتهم الجماهيرية، ففي سريلانكا أسقط الجياع رئيس البلاد ورئيس الوزراء قبل ثلاث سنوات أي في عام 2022، في تظاهرات عارمة اندلعت في طول البلاد وعرضها، احتجاجا على الأزمة الاقتصادية الحادة وانتشار الفساد. وفي عام 2024 أسقط الشعب البنغلاديشي حكومة رئيسة الوزراء السابقة شيخة حسينة في أغسطس/ آب من العام المنصرم 2024، بعد احتجاجات واسعة ضد الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، ما أدى إلى استقالتها وهروبها خارج البلاد.
فكم من بلد عربي ظروف شعبه ربما أسوأ من الظروف التي ثار عليها السريلانكيون والأفغان؟ وإذا كان هؤلاء قد ثاروا على حكوماتهم الوطنية بسبب الجوع والفساد، فكيف نصمت نحن على أنظمتنا العربية التي لا تُحرّك ساكنا، بينما المُحتل يُجوّع أشقاء لنا حتى الموت في غزة؟ فهل ما زالت العلة في الحاكم أم في المحكوم أم في كليهما معا؟
القدس العربي