مدونات

من غرناطة إلى غزة: وثائق "السلام" التي تشرعن الإبادة

"وصاية جديدة تعيد إنتاج الانتداب بصيغة معاصرة"- جيتي
في التاريخ كما في حاضرنا، لا تأتي الوثائق دائما لإطفاء نار الحروب، بل أحيانا تكون هي الوقود السري الذي يبقي النار مشتعلة ويحوّل الهزيمة العسكرية إلى إذعان أبدي.

غرناطة: سلام بمداد الخيانة

في كانون الأول/ ديسمبر 1491 وُقّعت معاهدة غرناطة بين آخر ملوك بني الأحمر، أبو عبد الله الصغير، وبين الملكين الكاثوليكيين فرناندو وإيزابيلا. نصت المعاهدة على أن يسلم المسلمون غرناطة مقابل ضمانات بالحفاظ على دينهم وأموالهم ومساجدهم وأعراضهم. بدا النص حينها كأنه سلام كريم، واحتفل بعض الناس بأنه صون للكرامة وسط عاصفة الهزيمة.

لكن لم تمضِ سنوات قليلة حتى انقلبت البنود؛ حُرّمت العربية، وهُدمت المساجد أو حُولت إلى كنائس، وفُرض التنصير القسري، ونُصبت محاكم التفتيش تلاحق المسلمين سرا وعلنا، وصودرت الأموال والأراضي، وطُرد من تبقّى من الأندلسيين في موجات تهجير مهينة. لقد كانت وثيقة سلام تفضي في النهاية إلى محرقة ثقافية وروحية وإبادة هوية كاملة.

تُقدّم للعرب والفلسطينيين وثيقة ذات 21 بندا تسمى خطة السلام، لكنها في جوهرها شرعنة للإبادة الجماعية في غزة

غزة: وثيقة بلا روح

واليوم، بعد أكثر من خمسة قرون، يُعاد المشهد على نحو آخر. تُقدّم للعرب والفلسطينيين وثيقة ذات 21 بندا تسمى خطة السلام، لكنها في جوهرها شرعنة للإبادة الجماعية في غزة.

هي وثيقة تُعدُّ بإعمار البيوت التي هُدمت مقابل محو الذاكرة التي تذكر من هدمها. وتعد بوقف القصف مقابل نزع سلاح المقاومة؛ أي ترك الجسد الفلسطيني عاريا أمام سكين الاحتلال. وتعد بحكومة تكنوقراط تحت إشراف دولي، أي وصاية جديدة تعيد إنتاج الانتداب بصيغة معاصرة.

وكما في غرناطة، تمنح الوعود: لا تهجير ولا مساس بالمدنيين وإعادة إعمار، ثم يترك التنفيذ رهن إرادة من سفك الدماء.

من الوثيقة إلى المحرقة البيضاء

إذا كانت محاكم التفتيش في الأندلس قد مارست التنصير والإبادة الروحية باسم الدين، فإن هذه الوثيقة الحديثة تمارس المحو والإبادة السياسية باسم السلام.

آنذاك صودرت الأملاك والأرواح باسم الصليب، واليوم تُصادر الأرض والهوية باسم الأمن الإسرائيلي الصهيوني. آنذاك أُحرقت المخطوطات العربية في ساحات غرناطة، واليوم تُحرق أحياء غزة ويُحرق أطفالها أحياء في محارق علنية بمباركة أمريكية وبموافقة عربية، يُراد بها أن يمحى صوت الشهداء من الذاكرة.

التاريخ لا يعيد نفسه لكنه يحذرنا.. "من سلم غرناطة بوثيقة وجد نفسه وأهله بعد عقود أمام محاكم التفتيش أو في قوارب التهجير نحو شمال أفريقيا. ومن يسلم غزة اليوم لوثيقة تبرئ الجلاد وتعاقب الضحية سيجد نفسه بعد سنوات أمام واقع لا مكان فيه لفلسطيني ولا لعربيح إلا كعامل في مشاريع السلام الاقتصادي أو كلاجئ يقتات على فتات المعونات".

وأخيرا..
لن تكون هناك محاكم تفتيش تقليدية، بل منظومات أمنية واقتصادية وإعلامية تحاصر روح الأمة وتحولها إلى تابع بلا ذاكرة

الوثيقة التي تُقدّم اليوم ليست جسرا للسلام، بل فخّا للاستسلام، وما لم يُقرأ التاريخ جيدا فإننا سنعيد مأساة الأندلس بوجوه جديدة؛ لن تكون هناك محاكم تفتيش تقليدية، بل منظومات أمنية واقتصادية وإعلامية تحاصر روح الأمة وتحولها إلى تابع بلا ذاكرة.

إن درس غرناطة يقول: لا تثقوا في وعود الغزاة حين يكتبونها بأيديهم، ولا تبدّلوا دماء الشهداء ببنود تحاك على مقاس المحتل؛ فالمحرقة لا تبدأ بالمدافع فقط، بل تبدأ دائما بورقة تسمى معاهدة.

خمسة قرون ندور في الدائرة نفسها، من غرناطة إلى غزة تتكرر القصة، وإن تغيرت الأسماء والوجوه: وثائق تُكتب بمداد الغزاة وملوك يوقعون عليها طلبا للأمان، ثم يكتشفون أن التوقيع كان شهادة وفاة للوطن. خرج أبو عبد الله الصغير من غرناطة مطأطئ الرأس فلم يجد في استسلامه نجاة، بل سمع من أمه ما ظل لعنة تتعقبه عبر القرون: "ابك كالنساء ملكا لم تحفظه كالرجال".

وهذا هو الدرس: لكل من يسلم الأرض بوثيقة استسلام يخرج من التاريخ صغيرا بلا مجد ولا ذكر، بينما تبقى الشعوب شاهدة، والتاريخ قاضٍ لا يرحم، والدماء لا تنسى، والأرض لا تُشترى بالبند بل تُستعاد بالدم والبندقية.