ما يجري من محاولات مقصودة للتستّر عليه هو أن بنيامين نتنياهو المطلوب لـ»العدالة الدولية» قد عدّل بخطّ يده على النسخة الأولى لهذه الخطّة التي أطلق عليها خطّة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
هذا لا يعني أبداً أن الخطّة الأولى كانت مختلفة جوهرياً عن الخطّة المعدّلة بقلم نتنياهو، ولا يعني أن التعديلات هي مشكلة هذه الخطّة، بقدر ما يعني الأمر كله أن الأخير لم «يرضخ» للخطّة إلّا بعد أن ضمن لنفسه قدراً أصبح بموجبه قادراً على أن يسوّقها للداخل الإسرائيلي بأقلّ قدرٍ من «الخسائر» المباشرة له شخصياً، ولحزبه الذي يراوح في منطقة فقد مكانة الحزب الأوّل، و»لائتلافه اليميني الفاشي» الذي يتهدّده التفكّك في أيّ لحظة.
المشكلة الحقيقية ليست هنا أبداً، ذلك أن نتنياهو يعرف حقّ المعرفة أنه لا يستطيع لا رفض الخطّة، ولا حتى معارضتها، وذلك بالنظر إلى عمق وحجم المأزق الذي يعيشه من مختلف الاتجاهات، وعلى مختلف المستويات، وبالنظر إلى ما يشكله ذلك من معاندة لترامب.
أقصد أن نتنياهو قد أوصل، ووصل بالخطّة إلى الدرجة التي لم يعد بإمكانه رفضها أو معارضتها «تاركاً» لنفسه التلاعب بالخطّة لاحقاً مستفيداً من الثغرات التي تتضمّنها، والتي تمت صياغتها لهذا الغرض تحديداً، ومستفيداً من سيطرته الميدانية لاستكمال ما يراه مناسباً في إطار هذا التلاعب، ومراهناً على رفض «
حماس»، وبالتالي العودة إلى إستراتيجيته الأصلية برفض مبدأ التوقف عن الحرب العدوانية، والمضيّ قدماً بالهجمات على مدينة غزّة، والاستمرار بالحرب الهمجية إلى ما نهاية، ليس فقط على غزّة، وإنما على جبهات أخرى، أيضاً، وهو في حالة نجاحه في المراهنة على رفض «حماس» يكون قد أمّن لنفسه ليس فقط المبرّرات الكافية لهذا الاستمرار، وإنّما تفادي استمرار الأزمة الداخلية التي تتصل تحديداً بمسألة استمرار الحرب التدميرية وتوقّفها.
المشكلة الحقيقية هي في التستّر على ما جرى ما بين «الخطّتين» من تعديلات، ليس للاختلافات بينهما، وإنما لسكوت العرب والمسلمين على هذا الذي جرى، بحيث أن هذا السكوت هو، وهو وحده من، وما أتاح لنتنياهو إجراء التعديلات، والظهور بمظهر أنه هو الذي «فرض» هذه التعديلات على ترامب، وبالتالي ظهر مرّة أخرى وكأنه ما زال اللاعب الأكبر والأهم في التأثير على البيت الأبيض، وإخضاع الإدارة الأميركية لإرادته الخاصة.
ليس هذا فقط، بل إن السكوت العربي والإسلامي هو الذي حشر «حماس» في زاوية ضيّقة من زاوية الوقت، ومن زاوية هوامش المناورة لديها، ومن زاوية تسهيل مهمّة نتنياهو بدلاً من حشره وإظهاره كتابع ضعيف لم يعد يمتلك الأوراق التي تؤهّله لفرض شروطه، ولا حتى بعضها الحسّاس.
الصيغة المعدّلة تجرّد «حماس» من هوامش المناورة في ثلاثة محاور رئيسة، وهي:
الأول: السلاح، حيث تحوّل الموضوع إلى «تجريد» بدلاً عن «الكفّ» ببقاء هذا السلاح يشكل تهديداً، وأصبح هذا التجريد هو شرط «الالتزام» الإسرائيلي ليس فقط بالانسحاب، وإنّما بإعادة الإعمار، أيضاً، وتحوّل هذا التجريد إلى سيف مسلط على الحركة بكل ما يعنيه من انعكاسات سياسية ومعنوية.
الثاني: بقاء قيادات «حماس» في القطاع من عدمه، وكذلك تحوّل هذا البقاء هنا، أيضاً، في بعده السياسي والمعنوي إلى عبءٍ كبير.
الثالث: هو أن بموجب التعديلات نفسها، وبصورة أكثر تحديداً مما كان عليه الأمر في «الخطّة الأولى» فإن العودة إلى الحرب في أي وقت يراه نتنياهو مناسباً ستكون متاحة دون أن يكون هناك من يملك الدلائل على عدم التزامه بالاتفاق.
وبالتالي فإن «حماس» هنا قد حُشرت في زاوية ضيّقة للغاية.. أما مدلولات الخطّة، وانعكاساتها على الواقع الفلسطيني كلّه فهي من زوايا كثيرة كارثية، ومن الزاوية الوطنية والسياسية، وعلى الواقع والمستقبل، وعلى الحقوق والأهداف الوطنية قبل كارثيتها على المشروع الوطني.
كما جاء في عشرات، وربّما مئات المقالات والتعليقات فقد أجمع كل هؤلاء على أن هناك ألف سببٍ وسبب لاعتبار هذه الخطّة عملية «مُحكمة» ومنهجية لتصفية القضية الفلسطينية من كل جوانبها على المدى المرئي على الأقل.
لكن الأهمّ والأخطر من هذه الانعكاسات الكارثية هي أنه في الواقع لا يوجد أي التزامات، لا أميركية، ولا إسرائيلية بعدم اللجوء إلى التهجير عند درجة معيّنة من تطوّر الأحداث في القطاع، كما أن الصيغة الواردة في الخطة التي أُعلنت توحي بأن ملف التهجير ما زال مطروحاً، وأنه لا ينتظر سوى إخراجه من الأدراج في الوقت المناسب.
وفيما يتعلّق بالدولة الفلسطينية فإن الصيغة تتحدّث عن نفسها. دولة معلّقة، دولة غير محدّدة في الأجل، وغير محدّدة في الجغرافيا، وهي دولة افتراضية من الناحية السياسية طالما أنها مرهونة للرأي الإسرائيلي، الرافض لقيامها، والمستعد لشنّ مئة حرب قادمة حتى لا تقوم الدولة الفلسطينية.
الخطّة تعيد القضية الفلسطينية - على الاقلّ من ناحية إقليم غزّة إلى مرحلة الانتداب (مندوب سامي) - ومرحلة الوصاية، ومرحلة الإلحاق، حيث إن ما تسمّيه الخطّة الحكومة الانتقالية التكنوقراطية ليست سوى مجلس بلدي تحت «قيادة» «عربية وإسلامية»، وكل هؤلاء تحت قيادة دولية، ثم كل هؤلاء، أيضاً، تحت قيادة ترامب نفسه.
نحن في الواقع أمام نفس المشروع العقاري القديم.. ونحن أمام مشروع للسيطرة على الغاز، وإبقاء سكّان غزّة، أو من يتبقّى منهم كعمّال في خدمة المشاريع العقارية للعصابة العقارية التي يتكوّن منها الطاقم الذي سيتولّى إدارة القطاع، من كوشنير إلى بلير، إلى ويتكوف، إلى برّاك، وهؤلاء جميعاً هم شركاء مباشرون في شركة عقارية عملاقة لنهب القطاع، وتحويله إلى هدف عقاري سيدرّ عليهم مليارات الدولارات.. بل ولا يستبعد أن ينتقل نشاط هذه العصابة إلى الضفة الغربية عند درجة أخرى وجديدة من تطوّر الأحداث.
أمّا المسألة الأخرى، والتي لا تقلّ خطورة فهي، وفي ضوء كل ما ذكرناه فإن الشعب الفلسطيني سيكون قد فقد شرعية تمثيله، بأن تتحوّل السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية إلى هياكل شكلية بلدياتية، تنتهي بموجبها منظمة التحرير الفلسطينية إلى مجرّد هيئة موجودة فقط للاستحضار السياسي، والاستخدام السياسي لأغراض «شرعنة» ما تُقدم عليه، وما تقوم به السلطة من دور، هو في الواقع ليس أكثر من البلديات.
قمّة السخرية هنا أن استمرار اللهاث وراء الأوهام الأميركية، وكذلك إلى حد كبير «الغربية» هو بمثابة غطاء مباشر لـ»شرعية» إجهاض المشروع الوطني، وتصفية الحقوق الوطنية.
ولهذا بالذات فإن حديث الرسمية الفلسطينية عن الجهود المخلصة أو الصادقة لترامب، وإدارته سيشكل موضوعياً غطاءً جديداً لتنفيذ «
صفقة القرن» في نسختها الجديدة، وهي بمثابة غطاء جديد لـ»شرعنة» تصفية أي آفاق مستقبلية لمقاومة مشروع الضمّ والتهجير والاستيلاء على الأرض، كما كان السكوت والصمت طوال هذه الحرب الوحشية التي امتدّت على مدار عامين كاملين غطاءً لتخاذل النظام العربي عن نُصرة شعبنا في القطاع.
الانتحار ليس ولا يمكن أن يكون خيار الوطنيين ولهذا فإن المجال المتاح الآن هو الموافقة ووضع خمسين لكن، على البنود
والآن ما العمل؟
أقصد كيف لـ»حماس» أن تتصرّف في ضوء هذا الواقع المرير؟
«حماس» لم ترفع صوتها عالياً ضدّ النظام العربي، وهي تراه عاجزاً عن نُصرة أهلنا في القطاع، ولم ترفع صوتها بالمرّة عندما تعلّق الأمر بالموقفين التركي والقطري، وهي تدفع الثمن غالياً الآن.
السقف القطري والتركي تبيّن أنه دون التصدّي لدولة
الاحتلال، ودون الخروج عن الطاعة لأميركا.
و»حماس» لا تستطيع أن تقول لا لهذه «الخطّة»، لأن ذلك سيكون بمثابة خيار انتحاري لها، وكذلك للقطاع، وهي باتت مطالبة بحكم مسؤوليتها أن تحاول تحسين بعض شروط هذه الخطّة ليس أكثر، وباتت مطالبة برؤية الأهمية القصوى لوقف الحرب الدموية، وإدخال المساعدات، باعتبار أن هذين قد تحوّلا عملياً إلى طوق النجاة الوحيد.
الانتحار ليس، ولا يمكن أن يكون خيار الوطنيين، ولهذا فإن المجال المتاح الآن هو الموافقة ووضع خمسين، لكن، على البنود.
لا تستطيع دولة الاحتلال أن تغامر «بالتنصّل» من الاتفاق أثناء مرحلة الـ»لكن»، والعرب والمسلمون الذين خذلوا «حماس» بعد اللقاء مع ترامب عليهم الآن أن يتحمّلوا هذه المسؤولية، ولن يكون متاحاً أكثر من ذلك، كما أرى.
لا أحد ينتظر المعجزات، لكن المخطّطات التي يجري إعدادها في الخفاء، ربما أقول، إن أميركا ودولة الاحتلال تعدّان لحرب قادمة أكبر من السابقة على إيران، وقد نكون أمام تطوّرات دراماتيكية في مسار الإقليم.
الأيام الفلسطينية