وقف رئيس وزراء دولة
الاحتلال، بنيامين
نتنياهو، على منصة العالم ليقول ما يريد ويشتهي، بينما كانت وفود الدول تنسحب من أجل إيصال الضربة القاضية لسردية الاحتلال ومواصلتها تزوير الواقع والوقائع التاريخية، بالتوازي مع الانفجار الجماهيري في شوارع نيويورك في طريقه إلى مبني
الأمم المتحدة وإيصال الرسالة التضامنية الشاملة، وإعلان فشل كيّ الوعي بشكل مباشر: لا يحق لك التزوير والاستمرار في إبادة الشعب الفلسطيني دون مساءلة.
بعد مرور عامين على حرب الإبادة، لم يعد هناك مكان لدولة الإبادة في الأمم المتحدة لممارسة المزيد من الاستعراض لآليات تبرير الجريمة البشعة، ولا يمكنها الاستمرار في إنكار التاريخ والذنب، وتحويل الضحية إلى متهم، فالعالم بدأ يفرّق بين من يدافع عن وطنه وحقه في تقرير مصيره وبين من يصوغ رواية تحمي آلة القتل وتُحوّل الدم إلى سلاح سياسي، وقلب الحقائق رأساً على عقب أمام أنظار الأمم المتحدة.
«سحق جزء من آلة الإرهاب واستكمال المهمة»، العبارة القصيرة في الخطاب العنصري إلا أنها انطوت على الكثير من استمرار التدمير والقتل، لكن ينقصها الكثير من تجاهل دروس العزلة الدولية والانكسار والمقاطعة والاعترافات والحراكات الدولية في البر والبحر، وينقصها الشرط الأخلاقي والسياسي، فلا يزال رئيس حكومة الإبادة والتطهير العرقي لا يكترث بالثمن، بل يتعالى عليه في توجيه التحايا للانتصارات المتحققة وفي قطع الوعود باستكمال المهمة، وتبرير استمرار العمل العسكري بلا مساءلة، دون حديث عن ضمان حماية المدنيين أو التنويه لما بعد إنجازه التدمير الشامل. لم يُذكر شيء من هذا.
لم يعد العالم يريد الاستماع إلى المزيد من كلمات إنكار ارتكاب جريمة الإبادة، ولم يعد يتأثر بتحويل الاتهام إلى حركة «
حماس»، وادعاء استخدامها المدنيين دروعاً بشرية، همّه إطفاء الأضواء عن الحقيقة وعن مشاهد الموت والجوع والدمار، فالخطابات لا تُغيّر ما تراه عدسات الكاميرات، ولا تغيّر ما توثقه محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات ومجلس حقوق الإنسان وتقارير الأمم المتحدة، وإنكار الإبادة من قبل خطاب دولة الاحتلال هو محاولة فاشلة في قتل واغتيال الحقيقة، غرضه استباق المساءلة الدولية القادمة، ومحاولة فاشلة لتطهير السجل الإجرامي الموثق بالصوت والصورة، وفي الحقيقة لا شك بأن الخطاب كان موجهاً إلى الشعب الإسرائيلي فقط.
المضحك المبكي، الخطاب تجلى في بثه إلى قطاع غزة عبر مكبرات الصوت والسيطرة على الهواتف النقالة
المضحك المبكي، الخطاب تجلى في بثه إلى قطاع
غزة عبر مكبرات الصوت والسيطرة على الهواتف النقالة، الذي لم يكن سوى محاولة مكشوفة للتلاعب الإعلامي والتقني بأهل غزة المنهكة وزرع الفتنة، أو من أجل محاولة للوصول إلى الرهائن المحتجزين وطمأنتهم، دون أن يعلم أن الكلام الرقيق لا يغطي القتل الممنهج للحياة، في الوقت الذي تستمر فيه آلة التدمير في استكمال وظيفتها.
لقد وصل الخطاب إلى الذروة في التزوير واتهامه السلطة برفض حلّ الدولتين، والادعاء بأن الفلسطينيين دفعوا المسيحيين للهجرة.. كلاهما يندرجان في سياق التشويش من جهة والاتهامات التحويلية من جهة أخرى، بدلاً من مواجهة سؤال الاستيطان وسياسات الحكومة التي تقوّض أي أفق لحل الدولتين، يوجه نتنياهو الاتهام للفلسطينيين.
وفيما يختزل قضية هجرة المسيحيين إلى الاضطهاد الديني، وتجاهل أن الفلسطينيين جميعاً يتعرضون إلى دوافع تحرك الهجرة والنزوح: مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات وتهويد الأراضي وضمها. الفلسطينيون جميعاً يعانون من الحرب المفتوحة والمستمرة، من القيود على الحركة، من حجز الأموال وانهيار الاقتصاد، والمسيحيون يكشفون تماماً الغرض من التزوير من خلال سعي الخطاب، عن سابق قصد، إلى تفكيك الوحدة الوطنية وإشاعة الشك بين المكونات الفلسطينية وادعاء الحرص على حماية الأديان.
اعتمد الاحتلال تاريخياً على خطاب التباكي، وفي كلمة رئيس حكومة الإبادة اعتمد على التباكي حين اعتبر أن الاعتراف بدولة فلسطينية بمثابة انتحار لإسرائيل! في محاولة بائسة للتهويل الوجودي الكامل: تحويل حق الشعب الفلسطيني في الاعتراف إلى تهمة على ضمير الدول، قاصداً القوْل: إن أي مطالبة له بتقديم التنازلات بمثابة خطر وجودي، وبالتالي لا بد من وجهة نظره من شلّ وتعطيل المسار السياسي الدولي، رغم المفارقة التاريخية بأن إسرائيل وُلدت من رحم الاعترافات الدولية، فكيف يُصبح الاعتراف للفلسطينيين بالدولة انتحاراً...!
الكلمات التي ينفي بها نتنياهو الجريمة لن تمحي صور الجثث والركام والخيام والجوع، ولن تسكت وجع الأمهات. إن كنا نحب الأرض، فالتحدي الآن أن نحوّل سخطنا إلى عمل سياسي وحقوقي وقانوني، يضع بمقاسات واضحة عناصر الردّ الحقيقي الذي يجب أن يكون مُركباً: سياسياً ودبلوماسياً، وكشف الحقائق في المحافل الدولية، إنسانياً وثقافياً، يحفظ ذاكرة الضحايا ويوثقها ويعمّمها.. بناء سرد مضاد يظهر وحدة الشعب الفلسطيني وتعدّديته، وأولاً وأخيراً انضواء الجاليات الفلسطينية والعربية في الحراكات التضامنية الدولية.
وأخيراً، ليس الهدف من تفكيك الخطاب مجرد دحض مزاعم فردية لرئيس حكومة دولة الاحتلال، بل كشف السردية الكاملة التي تبرّر استمرار السيطرة والاستلاب والحرب، وإنكار الإبادة، وقلب المسؤوليات، وتهويل الاعتراف، كلها أدوات لحماية مشروع احتلالي طويل الأمد يحتاج إلى التوسع الدائم والاستمرار في قضم الأراضي، وصولاً في نهاية المطاف والمبتغى إلى دولة إسرائيل الكبرى.
الأيام الفلسطينية