شهد
الاقتصاد
الصيني تحولًا لافتًا من التوسع إلى الانكماش، مع تراجع الصادرات والاستثمارات
وتزايد الضغوط الاجتماعية، الأمر الذي دفع المجتمع إلى تبني عقلية تقوم على الصمود
والبقاء بدلا من الطموح والنمو.
ونشرت مجلة "ذا
ديبلومات" تقريرًًا يناقش التحولات النفسية والاجتماعية التي ترافق الأزمة الاقتصادية
في الصين، مشيرًا إلى أن المجتمع انتقل من
عقلية النمو إلى عقلية
البقاء في ظل ما تظهره
البيانات الاقتصادية الأخيرة من تباطؤ في الاستثمار الصناعي والعقارات، إلى جانب تقلص
الاستهلاك وارتفاع معدلات بطالة الشباب.
وقالت المجلة في هذا
التقرير، الذي ترجمته "عربي21"، إنه لا عجب في أن لعبة الورق الصينية
"غواندان" أصبحت طقسًا شائعًا بين رجال الأعمال والمسؤولين؛ فآلياتها تعكس
بدقة مقلقة منطق الاقتصاد الصيني؛ حيث تتطلب التعاون، والتوقيت الحذر، والقدرة على
قلب المعادلة في اللحظة المناسبة.
ويسري تحت سطح بكين
المنظم والنظيف شعور بالقلق يصعب تحديده ولكن لا يمكن تجاهله، ورغم أن معالم المدينة
لم تتغير كثيرًا على مدار عقد من الزمن، إلا أن المكان الذي كان ينبض بالأمل بات يعكس
روحًا من التوجس في ظل اقتصاد تتغير قواعده باستمرار.
وأوضحت المجلة أن لعبة
"غواندان" تلعب بفريقين يسعيان للترقية عبر التعاون، من خلال الإشارات والتضحيات
التكتيكية لمساعدة الشريك، ولا يُحسم الفوز إلا في الجولة الأخيرة، مما يعكس منطق الاقتصاد
الحقيقي: الصمود، والتكيف، واغتنام اللحظة المناسبة.
ويهيمن هذا النمط على
قطاع التصنيع، حيث تتنافس الشركات الصغيرة على طلبات تصدير محدودة عبر منصات مثل
"علي بابا"، وتكافح للبقاء بهوامش ربح ضئيلة، بينما يفرض الموردون الكبار
شروطهم، وتؤخر العلامات التجارية المدفوعات، مما يضع الشركات المتوسطة في موقع ضعيف،
ومثل اللاعبين الذين حصلوا على أوراق سيئة في لعبة غواندان، فإن استراتيجيتهم الوحيدة
القابلة للتطبيق هي الصمود والبقاء على قيد الحياة والأمل في فرصة للعودة.
وتعكس البيانات الاقتصادية
هذا الضغط؛ فقد سجل الإنتاج الصناعي في آب/ أغسطس نموًا بنسبة 5.2 بالمائة فقط على
أساس سنوي، في حين انكمشت الصادرات بنسبة 0.4 بالمائة، وانخفض الاستثمار في الأصول
الثابتة بنسبة 6.3 بالمائة، وهو أضعف معدل منذ سنوات، ويعاني قطاع العقارات من انخفاض
الاستثمار بنسبة 19.4 بالمائة، مع تراجع الأسعار في جميع المدن الصينية الكبرى تقريبًا.
وحتى النقاط الإيجابية
تكشف هشاشة الوضع: فد ارتفع إنتاج السيارات بنسبة 10.5 بالمائة، لكن إنتاج أشباه الموصلات
تباطأ بشكل كبير من 15 بالمائة في تموز/ يوليو إلى 3.2 بالمائة فقط في آب/ أغسطس، بينما
يضحي المصنعون والأسر على حد سواء بهامش الربح، منتظرين بصبر فرصة لتغيير قواعد اللعبة.
وأفادت المجلة أن ضغط
الوقت وانعدام التسامح مع الخطأ أصبحا سمة الحياة اليومية؛ حيث يعمل الشباب المتعلمون
بجد ويعيشون في ظروف غير مستقرة، ويعملون بنظام "996": من 9 صباحًا إلى
9 مساءً، ستة أيام في الأسبوع.
وقد زاد اقتصاد التوصيل
الفوري، من توصيل الطعام إلى التجارة عبر البث المباشر، من تكثيف هذا ضغط، وأزال الاحتكاك
الذي كان يمنح الحياة اليومية طابعها الإنساني. فقد وفرت التكنولوجيا السرعة، لكنها
جعلت قرارات الحياة تبدو غير قابلة للتغيير بالنسبة لكثير من الشباب.
وذكرت الكاتبة أن هذا
التوتر ينعكس في البيانات؛ فقد تباطأت مبيعات التجزئة إلى 3.4 بالمائة، مع ارتفاع إيرادات
المطاعم بنسبة 1 بالمائة فقط، وانخفض نمو مبيعات الهواتف الذكية إلى النصف ليصل إلى
7.3 بالمائة. على النقيض من ذلك، ارتفعت مبيعات المجوهرات بنسبة 16.8 بالمائة، في إشارة
إلى أن الأسر تفضل تخزين القيمة على الدخول في التزامات جديدة.
ويظهر هذا الحذر أيضًا
في معدلات الولادة، حيث سُجلت 9.5 ملايين ولادة فقط في 2024، وهو ثاني أدنى رقم منذ
تأسيس الجمهورية؛ حيث يتجنب الأزواج الزواج والإنجاب خشية الالتزامات التي يصعب التراجع
عنها.
وأوضحت الكاتبة أن
ظاهرة التنافس بشكل أكثر شراسة على عوائد أقل أصبحت مرضًا اجتماعيًا، من امتحانات الثانوية
العامة إلى تقلص طلبات التصدير، بينما تروج الدولة الآن إلى مكافحته. فقد شهدت الصين
دخول 11.79 مليون خريج جامعي إلى سوق العمل في سنة 2024، وهو رقم قياسي، في حين أن
معدلات البطالة المرتفعة باستمرار بين الشباب – التي تقترب من 19 في المائة – زادت
من قلق الأسر في جميع أنحاء البلاد.
هذا ليس تبلدًا بل
تكيفًا عقلانيًا، فقد تقلصت فرص الصعود الاجتماعي، وتلاشت التسهيلات التي كانت متاحة.
ويعيد جيل اليوم صياغة قواعد اللعبة، لا بالمنافسة في نظام مختل، بل بإعادة ضبط السلوك
لمواجهة عصر الانكماش وعدم اليقين.
وتكشف هذه التغيرات
عن مجتمع ينتقل من عقلية النمو إلى وضع البقاء على قيد الحياة كرد فعل على الضغوط الداخلية
والجيوسياسية التي تواجهها الصين؛ حيث أزالت السرعة التراخي الذي كان متاحًا لتصحيح
المسار، بينما أصبح الانكماش عبئًا هيكليًا على الإنتاجية والاستهلاك.
وختمت المجلة بأن هذا
التحول النفسي له آثار عالمية؛ فالصين كانت محرّكًا للطلب العالمي، من صادرات المعادن
الأسترالية إلى سلاسل الإمداد في جنوب شرق آسيا، وإذا قامت الأسر بتقليص نفقاتها وخرج
الشباب من السوق، فإن التداعيات ستطال الاقتصاد العالمي برمّته.