فوجئت بحملة تدور بين حسني النية، وبين
مغرضين يتربصون بالشيخ محمد الحسن ولد الددو، والسبب في ذلك: أنه في مقابلة له على
البودكاست على موقع عربي 21، وقد طوف فيها في موضوعات مهمة، صال الشيخ وجال فيها
بعلمه المعهود، ثم دار الحديث عن نكبات الأمة، وبين أن نكباتها - كما حصرها الددو-
ست نكبات، وأولها وأكبرها: وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، والذي نتج عن ذلك ردة
عدد كبير من العرب، ومات ولم يضع دستورا للحكم.
هاجم الإمارات فتسلط عليه الذباب والنحل
ولم أدر ماذا في جملة الشيخ الددو يثير كل
هذه الانتقادات؟! أستطيع أن أفهم ما قامت به صفحات تابعة للذباب الإلكتروني
الخليجي، فالددو تعرض بالحديث عن الدعوة للديانة الإبراهيمية، وانتقدها انتقادا
شديدا، وهو ما يفسر كلما تعرض الددو لها، ناله هجوم شديد، يتم فيه اجتزاء عبارات
من فيديو مطول، ووضع عناوين توجه الناس في اتجاه معين للنقد والهجوم على الددو.
فقد حرفوا كلامه على أنه قصد أن النكبة
الأولى والكبرى للمسلمين، هي أن النبي مات ولم يترك دستورا للحكم، وهو كلام لا تصح
نسبته للددو، فبقي أن تناقش قضية هاجموه لأجلها، وهي: هل مات النبي ولم يترك
دستورا للحكم؟ والإجابة الواضحة عن السؤال: أن هناك فريقان في هذه المسألة، فريق
يرى أنه لا يوجد نظام حكم واضح من حيث شكله ونظمه، بل هناك نصوص في القرآن والسنة
وضعت مبادئ وقيم واضحة، يمكن على هديها اجتهاد المسلمين في نظام ينطلق من هذه
الثوابت، ويحافظ على تحقيقها.
من يرون وجود نظام حكم إسلامي
والرأي الآخر: يرى أن الحديث عن نظام حكم،
يتحرك في مستويات ثلاث، الأول: فلسفي أيديولوجي، والثاني: مستوى نظرياتي، والثالث:
مستوى تطبيقي. أما عن المستوى الأول فلا شك أن شؤون الحكم وما عليه، وواجباته،
وكذلك واجبات الأفراد واضحة من حيث النظرة الفلسفية.
هل مات النبي ولم يترك دستورا للحكم؟ والإجابة الواضحة عن السؤال: أن هناك فريقان في هذه المسألة، فريق يرى أنه لا يوجد نظام حكم واضح من حيث شكله ونظمه، بل هناك نصوص في القرآن والسنة وضعت مبادئ وقيم واضحة، يمكن على هديها اجتهاد المسلمين في نظام ينطلق من هذه الثوابت، ويحافظ على تحقيقها.
وأما المستوى النظرياتي، فلا شك أن هناك
نظرية سياسية، عبارة عن مجموعة من المبادئ المتعلقة بالحكم والحاكم، ويمكن أن
نجمعها من خلال النصوص القرآنية والنبوية المتعلقة بالموضوع. أما المستوى
التطبيقي: فهو أمر متروك للاجتهاد البشري، فكان في كل مرحلة يسير وفق شكل معين،
ارتضاه الناس، وتوافقوا عليه، وجاء الفقه الإسلامي ليقره، وربما يعدل في بعض
تفاصيله.
فريقان يريدان حكم الإسلام
يتفق الطرفان المختلفان هنا، على عدة أمور:
أن الإسلام دين شامل، والسياسة جزء منه، وأنه لا بد من تحكيم شرع الله، وأن يكون
الحكم وفق مبادئ الإسلام وثوابته، فهو خلاف في شكل ووسيلة هذا الحكم، لكنهم لا
يختلفون على وجوب تحكيم الشرع، ولا يختلفون في هيمنة الإسلام بكل تفاصيله على هذه
الجزئيات كلها، وهم على خلاف تام مع طرف آخر بعيد تماما عن ذلك، يرى فصل الدين عن
الدولة، ويرى أن الإسلام دين شعائري، وما يتعلق بالسياسة والحياة فلا يصلح لذلك.
انطلق الددو من الرأي القائل بأنه لا يوجد
نظام حكم متفق عليه، بل هناك طرق للحكم، تحاول أن تقترب قدر استطاعتها من الوصول
للحق، وهو ما اجتهد فيه الخلفاء الراشدون في نموذجهم، ولو كان هناك دستور واضح، أو
شكل واضح للحكم، فلماذا اختلف المسلمون إذن في شكل الحكم، واسم الحاكم، وطريقة
اختياره، فالخلفاء الراشدون تم اختيار كل خليفة منهم بطريقة مختلفة عن الآخر،
لكنها كلها كانت بشورى، واختيار حر، ورضا المسلمين عنه، ومراقبة لهذا الحاكم،
ومعارضته عندما يروا ما يستحق المعارضة، وكل ذلك حقوق وواجبات نص عليها الإسلام،
واجتهد المسلمون في تطبيقها، وكان خلافهم في الوسائل لا الأهداف والغايات.
علماء كبار سار على خطاهم الددو
والرأي الذي قال به الددو، أو ألمح إليه، لم
يكن بدعا فيه، بل سبقه إليه علماء كبار، لا يشك أحد في علمهم، ولا فكرهم، أنقل بعض
عباراتهم، لنعلم أن الذين هاجموا الددو لم ينتظروا حتى يعرفوا كنه الموضوع، ولا
استقراء ما يتعلق به من نصوص تراثية أو علمية،
فقد قال علماء كبار بأنه لا يوجد نظام واضح
لشكل الحكم في الإسلام، بل معايير ومثل هي المطلوب تحقيقها، يقول العلامة الشيخ
محمود شلتوت شيخ الأزهر السابق: (لم يضع القرآن ولا الرسول نظاما خاصا، وإنما هو
النظام الفطري، وقد ترك هذا الجانب من غير أن يوضع له نظام لأنه من الشؤون التي
تتغير فيها وجهة النظر، بتغير الأجيال، والتقدم البشري.
فلو وضع نظام في ذلك العهد لاتخذ أصلا لا
يحيد عنه من يجيء من بعدهم، ويكون في ذلك التضييق كل التضييق عليهم في ألا يجاوزوا
غيرهم، فنظام الشورى من الأمور التي تركت نظمها دون تحديد رحمة بالناس غير نسيان،
توسعة عليهم، وتمكينا لهم من اختيار ما يتاح للعقول، وتدركه البشرية الناضجة، وما
دام المقصود هو أصل المشورة، والوصول إلى قوانين التنظيم العادل، التي تجمع الأمة
ولا تفرقها، والتي تعمر وتبني، ولا تخرب وتهدم، فالأمر في الوسيلة سهل ميسور).
ويقول العلامة الشيخ عبد الوهاب خلاف: (من
استقرأ آيات الأحكام في القرآن يتبين أن أحكامه تفصيلية في العبادات وما يلحق بها
من الأحوال الشخصية، لأن أكثر أحكام هذا النوع تعبدي لا مجال للعقل فيه، ولا يتطور
مع البيئات.
وأما فيما عدا العبادات والأحوال الشخصية؛ من الأحكام المدنية
والجنائية، والدستورية، والدولية، والاقتصادية، فأحكامه فيها قواعد عامة، ومبادئ
أساسية، ولم يتعرض فيها لتفصيلات جزئية إلا في النادر، لأن هذه الأحكام تتطور بتطور
البيئات والمصالح، فاقتصر القرآن فيها على القواعد العامة، والمبادئ الأساسية
ليكون ولاة الأمر في كل عصر في سعة من أن يفصلوا قوانينهم فيها حسب مصالحهم في
حدود أسس القرآن العامة من غير اصطدام بحكم جزئي).
إننا نقرر أن دعوة الإسلام ليست غايتها إقامة حكم على صورة معينة تلتزمها الأمة في جميع العصور فلا تحيد عنها، وإنما غايتها إقامة مجتمع إنساني سليم، ولذا فإن الإسلام وقف عند رسوم الخطوط العريضة التي ينبغي أن تكون دستور الحكم في الدولة الإسلامية، دون التفات إلى الصورة الكاملة الدقيقة، التي ينبغي أن يكون معها المجتمع.
ويقول الدكتور محمد سلام مدكور: (ومع
الاعتراف بأن قيام الحكومة من ألزم ما يحتاج إليه الناس في الحياة، وأن الحكم
وظيفة اجتماعية، والحاكم هو العضو الذي تؤدى به هذه الوظيفة، ومع الاعتراف بأن
الإسلام عقيدة وشريعة معا.
فإننا نقرر أن دعوة الإسلام ليست غايتها
إقامة حكم على صورة معينة تلتزمها الأمة في جميع العصور فلا تحيد عنها، وإنما
غايتها إقامة مجتمع إنساني سليم، ولذا فإن الإسلام وقف عند رسوم الخطوط العريضة
التي ينبغي أن تكون دستور الحكم في الدولة الإسلامية، دون التفات إلى الصورة
الكاملة الدقيقة، التي ينبغي أن يكون معها المجتمع.
ولم يكن هذا للتقليل من شأن هذا الأمر،
وإنما هو لإبراز ارتباطه بالتطورات التي يمر بها المجتمع. فترك هذه التفاصيل
لتلدها المجتمعات، وتستقيم على الوضع الذي يتيح لها أداء وظيفتها؛ على الوجه
الأكمل).
لماذا ترك النبي نظام الحكم دون تفصيل؟
فكل هذه النقول تبين بوضوح أن المسألة واضحة
في رؤوس وعقول العلماء المعاصرين وغيرهم، من أنه لا يوجد نظام محدد من حيث شكله،
بل توجد قيم ومبادئ ثابتة، لا يختلف فيها أحد، من وجوب توافرها في الحكم في
الإسلام، أما الإجابة عن السؤال: لماذا ترك النبي الحكم دون توضيح لتفاصيله، أو
وضع دستور له؟
فذلك لأن الحكم أمر متطور ومتغير، ولا بد من
اجتهاد عقول الفقهاء والعلماء، في كل مرحلة وحالة، فالوسائل متغيرة، والأهداف
ثابتة، ولا يناسب تغير الوسائل أن تثبت، فمثلا طريقة اختيار الحاكم، لا يتخيل أهل
القرن الأول في الإسلام، أنه يمكن أن يقوم ملايين البشر بالاختيار الحر المباشر،
بطريقة سهلة وميسرة في وقت لا يتعدى ساعات، وربما بالكثير يستغرق يومين، وبعدها
يتم الإعلان عمن اختارته الأمة حاكما، والوقوف والجمود على ما اخترعه المسلمون
باسم: أهل الحل والعقد، فهو جمود على حالة ارتبطت بزمان ومكان، كانت تناسبه، ولذلك
بدائل أخرى تحقق الغرض.