قضايا وآراء

عندما يأتي الربيع وتورق الأشجار

CC0
كيف يكون وجه الأرض وكم تكون مظلمة باردة لو غابت الشمس عنها وتخلف القمر؟ وكيف يكون طعم الحياة لدى الكائنات والبشر بغير وجود الماء والهواء إن وجدت هنالك حياة؟ وكم يبلغ حجم التخبط والمعاناة لو أن الناس عاشوا دنياهم بغير نور وضياء؟

تلك تساؤلات تعرف الإجابة عليها كل العقول بمختلف مستوياتها وثقافاتها لأن موضوعها ضرورات الحياة التي لا يستقيم للناس وجود بغيرها، لذلك فإن الله تعالى قد امتن على خلقه بأن جعل لهم في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا.

والقمر كوكب يرتبط وجوده بالأرض ويؤثر فيها وعليها قربا وبعدا ومساحة وحجما، كما أنه رمز لكل وصف يجمع تجليات الجمال والروعة في عيون العشاق وإبداع الشعراء والأدباء.

والسراج هو الشمس التي تمد الأرض وما عليها ومن عليها بأسباب النماء وأسباب الوجود من دفء وضوء وحرارة، وتلك بعض وظائف الشمس والقمر بالنسبة للوجود الأرضي.

وقد اقتضت سماء الحقيقة أن يكون لها شمس وقمر، ودلت بشائر الوجود وتيقن في حقائق التاريخ وضمير الزمان في الماضي والحاضر والمستقبل؛ أن محمدا ﷺ وحده هو المؤهل لأن يكون شمسها وقمرها معا، وكانت إرادة الله وكان اختياره.. والله أعلم حيث يجعل رسالته. فإذا كانت حياة الناس على الأرض لا تقوم ولا تستقيم بغير الشمس والقمر، فكذلك حياتهم المعنوية والروحية والقيمية والأخلاقية لا تستقيم بغير رسول الله ﷺ.

ومن هنا كان الربط في الوصف بين الوظيفتين وظيفتي الشمس والقمر للحياة المادية على الأرض، ووظيفة رسول الله ﷺ بالنسبة للناس روحيا ومعنويا، قال تعالى: "تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجا وَقَمَرا مُّنِيرا": (الفرقان 61).

وبنفس الوصف والصيغة تحدث القرآن عن رسول الله ﷺ وكأنه يلفت الأبصار والبصائر إلى تلك المنة الكبرى على الناس ببعثة هذا النبي العظيم ﷺ. وما أظن بشرا أو ملكا مقربا اجتمع فيه الوصفان وصف الشمس ووصف القمر؛ مثلما اجتمع هذا الوصف القرآني في محمد رسول الله ﷺ. قال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدا وَمُبَشِّرا وَنَذِيرا وَدَاعِيا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجا مُّنِيرا" (الأحزاب 45-46).

  فأي بشر هذا..؟ إنه بشر معصوم بكمال الله له.. وإذا كانت العصمة لا تنافي المحنة، والاصطفاء لا يمنع الابتلاء، إلا أن قدرات البشر وإراداتهم كثيرا ما تخور أمام المحن وتذوب أمام المصائب، وتتأثر بذلك أفكارهم وعقولهم وعواطفهم ومشاعرهم وتصوراتهم، وكثيرا ما تأتي أحكامهم على الأشياء تحت ضغط الظروف مجافية للصواب منافية للحقيقة، غير أن جانب النبوة في الرسول الخاتم ﷺ معصوم بكمال الله له، وهذا الكمال في شخصه قانون لا يتخلّف أبدا، فلا تغيره الظروف ولا الأحداث، ولا ترفعه المصائب والمحن، لذلك فإن الله تعالى طالبنا ونحن نسلم عقولنا وقلوبنا ومشاعرنا وعواطفنا لرسوله الله ﷺ بأن نكون على ثقة ويقين بسلامة موقف الاتباع له، والانقياد لأمره والانصياع لتوجيهه في الأمور كلها أمرا كانت أم نَهيا.

وإذا كانت النجوم في مسارها بين شروق وغروب نراها لا تضل ولا تزل ولا تخرج عن مسارها فتختل، وتجري في هذا الفضاء الرحيب والرهيب منذ ملايين السنين ولا تتخلف أبدا، فكذلك عقل رسول الله ﷺ؛ لا يضل ولا يزل ولا يختل، وهذا هو مدلول القسم الجليل والجميل في تأكيد هذا المعنى. قال تعالى: "وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى" (النجم 1-4).

فأي بشر هذا وأي عقل هذا؟

إن الله تعالى حدَّث البشر عن حجم التفاعل الذي يحدث للجبال لو أنها تلقت كلمات الله، وأراد سبحانه أن يضرب للناس مثلا يدفعهم إلى التأمل ويثير فيهم العقل والفكر، إن ذلك لو حدث وتلقى الجبل كلمات الله لرأيته خاشعا متصدعا تنهد جنباته وتنهار قواه، قال تعالى: "لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعا مُّتَصَدِّعا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" (الحشر: 21).

هذا شأن الجبل فما شأن رسول الله ﷺ؟ لقد قال المفسرون والخبراء في علوم القرآن أن سورة الأنعام نزلت جملة واحدة وهي من السور المكية الطوال ذوات الفواصل المتباعدة، وعدد آياتها خمس وستون ومائة، نزلت مرة واحدة، وتلقاها قلبه ووعاها عقله واحتوتها ذاكرته دون أن تغيب منها كلمة أو يفلت منها حرف واحد، فأي قلب هذا؟ وأي عقل هذا؟ وأي بشر هذا؟

لقد نزل القرآن على رسول الله ﷺ وتلقى كلمات الله على مدى ثلاثة وعشرين عاما وهي تتلى عليه بكرة وأصيلا، ومع ذلك ظل واثق الخطوة يمشي بشرا، متواضع النفس، مستقر الفؤاد، طلق المحيّا، غير جبار ولا متكبر.

فأي بشرية هذه وما حجم طاقتها وقدراتها؟ وهل تماثلنا موضوعا وإن تماثلت شكلا؟

إنه بشر مثلنا، والمماثلة في شيء لا تعنى المماثلة في كل شيء لكنا لسنا مثله فهو يبيت عند ربه يطعمه ويسقيه، ولا يعرف قدره العظيم إلا الله العظيم الذي يعلم من خلق، ونعم المخلوق العظيم صاحب الخلق العظيم وتبارك الله أحسن الخالقين.

بين ذكرى نحييها وأخرى نحيا بها

الذكرى التي نحييها هي ذكرى مضت في التاريخ وانقضت أيامها ولياليها بمضي صاحبها، أما الذكرى التي نحيا بها فهي ذكرى تذكرنا عندما ننسى، وتوقظنا عندما نغفل، وتجدد همتنا عندما نفتر، وترفعنا عندما نهبط.

هي ذكرى فيها يتجدد العهد على الوفاء لصاحبها مع كل مرة نشهد فيها لله بالوحدانية ولمحمد ﷺ بالرسالة: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله".

هي ذكرى يحيا بها المسلم مع كل لحظة من الزمن في عمره مرت في الماضي وتمر في حاضره ومستقبله على سواء، تغرس في حسه ويقينه أن صاحبها ﷺ لم يغب لحظة واحدة عن الحياة، فهو حي في القلب والوجدان، في الحركة والسلوك، في العقل والفكر، في الوحي الذي يتلى، وفي النور الذي يضيء، وفي السنة المباركة التي تشرق على الدنيا وكأنها شمس النهار حين تسطع بدفئها وحرارتها، وفي المنهج الذي يحدد الطريق ويرسم الغاية ويوجه بوصلة الحياة لكل المؤمنين على أرض الله الواسعة.

- إنها ذكرى تعلمنا أن المؤمن يجب أن يعيش فوق الحياة لا فيها.

- تعلمنا أن المؤمن هو قدر الله الغالب وقضاؤه الذي لا يرد.

- إنها ذكرى تعلمنا أن المؤمن لا يعيش ضعيفا هزيلا مهمشا لأنه صاحب دور ورسالة.

- إنها ذكرى تعلمنا أن الآخرة الصالحة لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال الدنيا الصالحة.

- وأن صلاح الدنيا يتوقف على الأداء الحضاري المتميز لمجموع المؤمنين.

- إنها ذكرى تعلمنا أن المؤمن لا يطلّق دنياه ليتزوج بها الكافر، وإنما المؤمن هو من يملك دنياه ويسيطر عليها ويسخّر ما فيها من خير لخدمة الإنسانية وترقية الحياة.

- إنها ذكرى تعلمنا أن المؤمن ليس من ينسحب من الدنيا ويتركها للشياطين لتغتال أجمل ما فيها من خير، وإنما المؤمن هو من يقود الحياة بعقل ناضج يرفض الخرافة ويأباها، وبقلب كبير يعلو على الأهواء، وبضمير حي شريف، وبخلق زكي يترفع فوق الضغائن والأحقاد، وبهمة تسمو فوق المحن، وبإرادة صلبة لا تفرط قيد أنملة في شيء من ثوابتها.

- إنها ذكرى تعلمنا أنا الحب ركن في الإيمان ودليل على صدقه، وأن المؤمن يعالج كراهية الآخرين بالحب لهم، ويعالج بخلهم بمزيد من كرمه،      ويعالج غضبهم بحسن حلمه عليهم وصبره على حنقهم.

- إنها ذكرى تعلمنا أن المسلم يجب أن يكون رجل دولة من الطراز الأول، وهو أيضا رجل توبة من الطراز الأول.

- إنها ذكرى تعلمنا أن السكوت على احتلال الأرض والتفريط في المقدسات ضياع للشرف، وأن التخلي عن الأخوة عار وفضيحة، وأن خذلان المسلم وقبول المذلة كفر.

فهل يتعلم المسلمون من ذكرى ميلاد نبيهم أن المسلم أخ المسلم لا يسلمه ولا يظلمه ولا يخزله؟ وهل بقي في مناخ أمتنا أنفاس لربيع محتمل؟ أم أن الربيع قد غاب وسقطت من أشجاره كل أوراق المجد والرجولة والبطولة والشرف؟