في لحظة تاريخية
تتقاطع فيها الدبابات مع خرائط الأمم، وتلتقي فيها صرخات الأطفال تحت الركام مع بيانات
العسكريين الباردة، تعود
غزة إلى واجهة المشهد العالمي، كجغرافيا للعقاب الجماعي وساحة
لاختبار نظريات الحسم العسكري الحديثة. صباح الجمعة، أعلن جيش الاحتلال
الإسرائيلي
إلغاء ما أسماه "الهدنة التكتيكية المحلية" داخل مدينة غزة، وأعاد تصنيفها
"منطقة قتال خطيرة"، تمهيدا لانطلاق المرحلة الأخطر من عملية "عربات
جدعون 2"، التي تستهدف فرض السيطرة على المدينة في مشهد دموي يعيد رسم الذاكرة
الفلسطينية بمداد من النار والدمار.
هذا الإعلان
لم يكن مجرد إجراء ميداني؛ بل كان رسالة سياسية مركبة، تعكس طبيعة الصراع الراهن، صراع
تتجاوز أبعاده حدود غزة الضيقة إلى قلب الشرق الأوسط والعالم، حيث تختبر آلة الحرب
الإسرائيلية حدود القوة، فيما تُصرّ غزة على إعادة تعريف مفهوم الصمود والمقاومة في
القرن الحادي والعشرين.
"جدعون
2".. حربٌ تُدار بالخرائط لا بالرحمة
رسالة سياسية مركبة، تعكس طبيعة الصراع الراهن، صراع تتجاوز أبعاده حدود غزة الضيقة إلى قلب الشرق الأوسط والعالم، حيث تختبر آلة الحرب الإسرائيلية حدود القوة، فيما تُصرّ غزة على إعادة تعريف مفهوم الصمود والمقاومة في القرن الحادي والعشرين
تستند خطة
"جدعون 2" إلى مبدأ تفكيك المدينة قبل السيطرة عليها: أحياء تُحوّل إلى أنقاض
قبل أن تطأها الدبابات، ومناطق "آمنة" تُقصف في وضح النهار، وحدود نزوح تُختصر
إلى سبعة كيلومترات مربعة فقط. ليست هذه مجرد عملية عسكرية؛ بل هي إعادة تشكيل شاملة
للمشهد السكاني والجغرافي، حيث يتحول التهجير إلى أداة حرب استراتيجية، ويصبح المدنيون
جزءا من معركة كسر الإرادة.
التكتيك الإسرائيلي
في هذه المرحلة يقوم على ثلاث ركائز:
1- الاجتياح
البطيء المحمي بالنار الكثيفة: تقسيم غزة إلى مربعات صغيرة تُمسح بالقصف قبل أي تحرك
بري.
2- الهندسة
الميدانية المتقدمة: استخدام جرافات وروبوتات عسكرية ومسيّرات انتحارية لتطهير المناطق
المشتبه بوجود أنفاق تحتها.
3- الضغط الإنساني
كسلاح: تحويل الإمدادات الغذائية والطبية إلى ورقة تفاوض، بحيث يصبح البقاء على قيد
الحياة معركة يومية لسكان المدينة.
لكنّ هذه الاستراتيجية
ليست جديدة على غزة؛ فقد جُرّبت أشكال مشابهة في "الرصاص المصبوب" عام 2008،
و"الجرف الصامد" عام 2014، وحرب 2023–2024 التي أعادت تعريف القتال الحضري.
الفارق اليوم أن إسرائيل تحاول إعلان "صورة نصر" بعد سلسلة إخفاقات، في وقت
يتآكل فيه الرأي العام العالمي ويغيب فيه الردع الدولي.
صمت العالم..
حين يتحول القانون إلى ديكور
المجزرة المستمرة
في غزة تكشف عجز المنظومة الدولية: بيانات متكررة من مجلس الأمن، ولجان تقصٍّ لا تجد
طريقها للتنفيذ، وقرارات محكمة العدل الدولية تبقى حبرا على ورق. هذا الصمت لا يعني
فقط تواطؤا سياسيا، بل يعكس خللا في مفهوم العدالة الدولية ذاته؛ إذ تحوّل القانون
الدولي الإنساني إلى إطار نظري عاجز عن حماية المدنيين حين تواجهه قوة عسكرية مدعومة
بتحالفات سياسية واقتصادية واسعة.
وفي ظل هذا
الانهيار الأخلاقي، لم يعد أمام الفلسطينيين سوى الاعتماد على "القوة الشعبية
والعسكرية الذاتية"، حيث
المقاومة المسلحة لم تعد خيارا سياسيا، بل ضرورة بقاء،
وحيث صمود المدنيين في المخيمات المنكوبة أصبح أداة ضغط تعادل وقع الصواريخ والأنفاق.
المقاومة الفلسطينية..
عقلية حرب القرن الحادي والعشرين
في مواجهة
"جدعون 2"، طورت المقاومة نموذجا جديدا من القتال الحضري، يعتمد على اللامركزية
والمرونة والتكنولوجيا البسيطة ذات الأثر الكبير. الأنفاق أصبحت بمثابة "جيش تحت
الأرض"، يتيح التنقل والإمداد وإعادة الانتشار رغم التفوق الجوي الإسرائيلي.
التكتيكات
الأبرز:
- حرب الأنفاق
الشبكية: جعلت السيطرة الإسرائيلية سطحية وغير قادرة على تفكيك البنية العسكرية الحقيقية.
- الكمائن
الدقيقة: استهداف القوات المتقدمة بعبوات موجهة ومسيّرات استطلاع هجومية.
- المرونة
العملياتية: تحويل كل حيّ إلى جبهة مستقلة، ما يجعل فقدان أي منطقة لا يعني انهيار
المنظومة القتالية.
- الحرب النفسية
والإعلامية: بثّ صور الخسائر في صفوف الجيش الإسرائيلي لرفع الروح المعنوية الداخلية
وزعزعة ثقة المجتمع الإسرائيلي في قيادته.
هذه التكتيكات
جعلت المعركة أقرب إلى "حرب استنزاف طويلة" لا إلى معركة خاطفة، وهو ما تحاول
إسرائيل تفاديه بأي ثمن، لأنه يهدد صورتها كقوة لا تُقهر، ويجعل من غزة رمزا عالميا
للمقاومة المدنية والعسكرية.
غزة.. الجغرافيا
التي تتحدى الجغرافيا
منذ عام 1948،
كانت غزة دائما مساحة للعقاب الجماعي. اليوم، ومع تهجير أكثر من مليون إنسان من شمال
القطاع ووسطه، تعيد إسرائيل استخدام التهجير كسلاح لتفريغ المدينة وتحويلها إلى "منطقة
عمليات عسكرية دائمة". لكن الواقع يثبت أن غزة، رغم صغر مساحتها، هي "جغرافيا
سياسية أكبر من حدودها": فهي عقدة صراع إقليمي، ورمز لصراع أخلاقي عالمي، وميدان
اختبار لتوازنات القوى في الشرق الأوسط.
المفارقة أن "داود الفلسطيني" اليوم يقلب المعادلة، فيجعل جيشا مدججا بالتكنولوجيا يعيش مأزق حرب شوارع، ويحوّل الدبابات إلى أهداف سهلة في أزقة لا تتجاوز أمتارا معدودة
هذا الإدراك
الاستراتيجي جعل من كل ضربة إسرائيلية عاملا يزيد التوتر الإقليمي: من لبنان إلى البحر
الأحمر، ومن طهران إلى واشنطن. غزة ليست مجرد مدينة؛ هي رسالة مفتوحة للعالم بأن عصر
الحروب السريعة قد انتهى، وأن الشعوب المقهورة تستطيع فرض معادلات جديدة مهما بلغت
قوة العدو.
بين الأسطورة
والحقيقة.. جدعون يواجه داود من جديد
اسم العملية
الإسرائيلية "جدعون" ليس صدفة؛ فهو استدعاء لصورة تاريخية توراتية لبطل يهزم
خصومه بأقل الموارد. لكن المفارقة أن "داود الفلسطيني" اليوم يقلب المعادلة،
فيجعل جيشا مدججا بالتكنولوجيا يعيش مأزق حرب شوارع، ويحوّل الدبابات إلى أهداف سهلة
في أزقة لا تتجاوز أمتارا معدودة.
الأسطورة انقلبت
واقعا: "جدعون" الإسرائيلي، رغم تفوقه، يواجه مقاومة لا تعتمد على السلاح
وحده، بل على الإرادة الشعبية، حيث كل منزل يمكن أن يكون ثكنة، وكل شارع يمكن أن يكون
كمينا، وكل أنقاض مبنى شاهدا على فشل منظومة كاملة من الخطط العسكرية والسياسية.
وفي الختام:
غزة تكتب رواية القرن
في قلب هذا
الجحيم، تكتب غزة رواية ستدرّس في كليات الحرب والعلوم السياسية: كيف يمكن لشعب محاصر
منذ أكثر من 18 عاما، يعيش في مساحة لا تتجاوز 365 كيلومترا مربعا، أن يصمد أمام قوة
عسكرية تُعتبر من بين الأقوى عالميا؟
الجواب يكمن
في الإرادة الجماعية، في ثقافة المقاومة التي تجاوزت الأيديولوجيات والفصائل لتصبح
لغة حياة. قد تتمكن إسرائيل من السيطرة على مبانٍ وشوارع، لكنها لن تنتصر على شعب اختار
أن يحوّل الحصار إلى مدرسة، والدمار إلى خطاب للعالم، والمأساة إلى معركة هوية.
غزة اليوم
ليست مجرد معركة عسكرية؛ إنها اختبار للإنسانية جمعاء. إذا سقطت غزة، سقطت العدالة
الدولية، وإذا صمدت غزة، ستعيد كتابة تعريف النصر والهزيمة في التاريخ الحديث.