أفكَار

حرية التعبير بين الفلسفة والدين وحقوق الإنسان.. عن التوتر بين الحرية والقانون

الدين في المجتمعات الإسلامية ليس خيارًا فرديًا أو تقليدًا ثقافيًا، بل هو جوهر الهوية الجماعية وأساس الشرعية السياسية للأنظمة..
أثارت المتابعة القضائية لإحدى المدونات على خلفية نشرها لصورة مستفزة وهي ترتدي قميصًا يتضمن محتوى مسيئًا للذات الإلهية، نقاشًا واسعًا حول حدود حرية التعبير في الفضاء العام، وخلق جدلًا حول العلاقة بين الحرية والقانون والدين وحقوق الإنسان.

والحقيقة أنه من الصعب الإحاطة بمفهوم الحرية بشكل صارم، لأنه مفهوم متطور يختلف من مجتمع لآخر ومن ثقافة لأخرى، لذلك فإن الحرية في النهاية تجربة وليست مفهومًا مجردًا، كما يرى المفكر المغربي عبد الله العروي. هذا النقاش يستدعي تأطيرًا نظريًا من الناحية المعيارية والفلسفية لتحرير القول في الأصل الفكري لمفهوم الحرية، قبل استكشاف الزوايا المتعلقة بالدين والقانون وحقوق الإنسان.

هوامش في الأصل الفكري والفلسفي لمفهوم الحرية..

إذا كان السياق السياسي والاجتماعي الذي صرخ فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه (القرن السابع الميلادي) بقولته الشهيرة: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا" هو سياق الانتصار للمظلوم في القصة المعروفة بين القبطي وعمرو بن العاص والي مصر آنذاك، فإن الحرية في السياق الأوروبي تأثرت بالصراع ضد الاستبداد الكنسي، وبمتطلبات الانتقال من حالة الفوضى الناتجة عن تراجع الدور السياسي للكنيسة إلى مرحلة العقد الاجتماعي الذي ينظم العلاقات بين أفراد المجتمع.

هكذا جعل فلاسفة العقد الاجتماعي (القرن 17 و18) الإرادة الفردية الخاصة بالمواطنين خاضعة للإرادة العامة، بحيث يصبح الفرد والجماعة كيانًا واحدًا. ومن ثم فإن الالتزام بالقانون الذي ارتضاه لنفسه هو تعبير عن الحرية. فالإنسان يكون حُرًا حسب جون جاك روسو، ليس ليصبح مستقلاً عن المجتمع، وإنما لأن القانون يعبر عن إرادته الخاصة، ومن هنا ترتبط حرية الفرد باحترام سيادة الشعب الذي هو جزء منه.

حرية التعبير ليست مفهومًا كونيًا واحدًا، بل متعدد الأبعاد ويتشكل بحسب السياق الفلسفي والثقافي والسياسي، ففي الغرب الليبرالي نلاحظ تنوعا واضحا يتراوح بين الإطلاق الأمريكي والتقييد الأوروبي، بينما في العالم العربي والإسلامي يؤثر الحضور الاجتماعي والثقافي للدين في الحياة العامة في رسم ضوابط لحرية التعبير.
أما جون لوك، فيرى أن الدافع وراء تنازل الأفراد عن الحرية والسلطة التي كانت لهم في الحالة الطبيعية هو تمكين السلطة التي تُشرع القوانين من استخدامها وفق مصلحة المجتمع. وأيًا كانت الجهة التي تمارس السلطة العليا في مجتمع سياسي، فعليها الحكم بمقتضى القوانين المستقرة والدائمة والمعروفة.

وبالتالي، فلئن كان هؤلاء الفلاسفة يعتقدون أن الحرية هي حق طبيعي شأن كل الحقوق الطبيعية، فإن المرء لا يستطيع الاستمتاع بها بعيدًا عن المجتمع المدني والحكومة المنظمة، ومن هنا انطلقت الدعوة لبناء مجتمعات تعاقدية وتأسيس حكومات مدنية تسمح من خلال تشريعاتها بوضع ضوابط للحفاظ على حرية الإنسان وحياته وملكيته واستقرار المجتمع وأمنه، وهذا يعني أن استمتاع المواطنين بالحرية لم يكن ممكنًا إلا بوجود مجتمع منظم، انتقل من حالة الفوضى إلى حالة النظام، أي إلى دولة القانون.

ومن هنا أصل كلمة "الحريات العامة"، التي تعني أن هذه الحريات انتقلت من الأصل الفلسفي إلى الأصل القانوني الذي أصبح يحميها وينظمها، وأيضا أصل كلمة "الحريات الأساسية" أي الحريات المحمية بنص القانون الأساسي (أي الدستور)، فبدل أن تكون الحرية فلسفية مجردة تسمح للإنسان بفعل ما يريد، أصبحت الحرية حقًا قانونيًا يسمح للإنسان بفعل كل ما لا يمنعه القانون.

حوار الحرية والقانون والجدل الدائم

يقول مونتسكيو في كتابه روح القوانين: "ينبغي أن يُنقش في الذهن ما هو الاستقلال وماهي الحرية؟ فالحرية هي حق فعل كل ما تبيحه القوانين، فإذا ما استطاع أحد الناس أن يصنع ما تُحرمه القوانين فقد فَقَدَ الحرية، وذلك لإمكان قيام الآخرين بمثل ما فعل". إذن، عندما يتحول الأصل الفلسفي للحرية إلى أصل قانوني، تصبح الحرية مقيدة بمساطر وقواعد قانونية.

هل يؤثر القانون على واقع الحريات؟ بالتأكيد نعم، خصوصًا عندما يصبح القانون أداة للهيمنة ـ حسب النظرية الماركسية ـ لذلك هناك جدل دائم بين السلطة والحرية، لأن تقييد الحرية بالقانون قد يؤدي إلى المس بالحرية الطبيعية.

لكن هل يمكن القول بأن الانتصار للحرية يكون بالخروج على القانون؟ هنا نكون أمام دعوة للعودة إلى حالة الفوضى، أي ما قبل الدولة وما قبل المجتمع المنظم، وهو ما لا يمكن قبوله عقليًا. ولذلك ستظل هناك دائما مسافة بين الحرية الفلسفية والحرية القانونية، وهنا يميز كانط بين الحرية الخارجية في إطار القانون، والحرية الذاتية الفلسفية. فالحرية الخارجية هي حجر الزاوية على مستوى الحق، في حين تعتبر الحرية الداخلية هي حجر الزاوية على مستوى الأخلاق، أي القناعات الخاصة بالفرد.

فالحرية الخارجية للفرد قد تتعارض مع حرية الآخرين، ولهذا يجب تقييدها، لأنه إذا لم تُقيد وتخضع لشروط، فإنها ستنتهي بإلغاء ذاتها. ومن هنا اقتضى الأمر تقييد الحرية للمحافظة عليها، ووضع نظام لتعايش الحريات الخارجية يحدد المجال الذي ينبغي أن تتحرك داخله الحرية دون أن تتعارض مع حرية الغير.

وفي هذا السياق، تكمن أهمية الدولة، فالدولة ليس غاية في حد ذاتها، وإنما وسيلة للمحافظة على الحرية الخارجية للأفراد. إن وجود الدولة ليس مؤقتًا أو عرضيًا، بل ضرورة أخلاقية، وبتطبيق القانون يجب أن تحمي الحرية الخارجية، ولو اقتضى الأمر استخدام العنف المشروع، أي المؤطر بالقانون.

بمعنى أن حرية أي شخص لابد أن تكون محدودة بحرية الآخرين ضمن علاقاته معهم، وتنظيم هذه العلاقات ووضع حدود على الحريات من اختصاص القانون.

وهذا النهج سيظهر أيضًا عند تأصيل مفهوم الحرية في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان في منتصف القرن العشرين.

الحرية في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان

قيمة الحرية أنها من أعظم مكتسبات الإنسان في مواجهة التسلط والاستبداد، فهي ليست مجرد حق فردي، بل شرط وجودي وأخلاقي للكرامة الإنسانية. ولا يمكن الحديث عن إبداع أو تقدم معرفي في غياب فضاء آمن، ولاسيما حرية التعبير، باعتبارها الوسيلة التي يمتلكها الفرد في مواجهة السلطة، وأداة لمساءلة ومحاسبة المسؤولين.

لقد كانت عبارة عمر بن الخطاب رضي الله عنه "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا" حاضرة بمعناها في مواثيق حقوق الإنسان الحديثة، بدءًا من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966)، اللذين يكفلان حق الإنسان في الحرية والمساواة واعتناق الآراء والتعبير عنها. لكن هذه الحرية، وإن بدت مطلقة في النصوص، فإن ممارستها تخضع لمجموعة من الضوابط.

فالمادة 19 من العهد الدولي توضح وجوب ممارسة حرية التعبير بما لا يعتدي على حقوق الآخرين أو سمعتهم، وبما لا يهدد الأمن العام أو النظام العام أو الآداب العامة، معتبرة حرية نقل الأفكار والآراء حقًا ثمينًا جدًا، يجب أن يستخدم دون إساءة حسب الحالات التي يحددها القانون.

التعددية لا تعني استحالة الاتفاق على معايير مشتركة، لكنها تكشف أن النقاش حول حرية التعبير سيظل مفتوحًا، وأن التحدي الأكبر يتمثل في صياغة معادلة تضمن التمييز بين التعبير عن الرأي وحق النقد والاختلاف الذي ينبغي حمايته وتحصينه والدفاع عنه وبين خطاب الإهانة والإساءة والاستفزاز الذي ينبغي محاصرته وتقييده حماية لحرية التعبير نفسها.
إذن الحرية مرتبطة بالمجال الذي يحدده القانون، الذي تكون فيه تصرفات الفرد مقبولة وتندرج ضمن حريته. بهذا المعنى، نحن أحرار في فعل كل ما لا يمنعه القانون، ورفض القيام بأي فعل يمنعه.

هنا يظهر التوتر الأساسي: كيف نوازن بين الحق في التعبير والحق في الاحترام؟ وهل يمكن أن تتحول حرية التعبير إلى أداة للإقصاء أو الاستفزاز باسم الحرية نفسها؟ وتزداد هذه الأسئلة حدة حين يتعلق الأمر بتعبيرات مسيئة للدين، لما له من رمزية روحية ووجدانية لملايين البشر.

جدل الدين والحرية في المجتمعات الحديثة..

يعتبر الفكر الليبرالي المتطرف أن نقد الدين هو جزء مشروع من النقاش العام، لكن مع ذلك، فإن العديد من المحاكم الأوروبية تميل إلى حماية الرموز الدينية من الإهانة.

ففي قضية Otto-Preminger-Institut ضد النمسا (1994)، قضت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بأن عرض فيلم يتناول رمزية دينية بطريقة مسيئة لا يندرج ضمن حرية التعبير المطلقة، وأكدت في قضية Wingrove ضد المملكة المتحدة (1996) أن احترام معتقدات الآخرين جزء من الحفاظ على "السلم الديني والاجتماعي".

في المقابل، تمثل الولايات المتحدة نموذجًا مغايرًا، حيث يضمن التعديل الأول للدستور حرية التعبير حتى لو كان صادمًا أو مسيئًا، ففي قضية Hustler Magazine ضد Falwell (1988)، قررت المحكمة العليا أن السخرية من الرموز الدينية أو السياسية تظل محمية طالما لم تتضمن تحريضًا مباشرًا على العنف.
أما في آسيا، فيعتبر النموذج الهندي تقييد حرية التعبير المسيئة للأديان حماية للتنوع الديني الهش، كما يظهر في الأحكام الصادرة ضد دعاوى الإساءة الدينية على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تعتبر هذه الممارسات جريمة بموجب المادة 295 من قانون العقوبات الهندي.

أما في العالم العربي والإسلامي فإن حرية التعبير في القضايا ذات الصلة بالمعتقدات تظل مؤطرة بالمكانة التي يحتلها الدين في الحياة العامة.

مكانة الدين في العالم العربي والإسلامي وعلاقته بحرية التعبير

عند المقارنة بين المسيحية والإسلام، يظهر اختلاف جوهري في العلاقة بين العقيدة الدينية والتشريع القانوني. فالمسيحية تعتبر عقيدة روحية تهدف إلى هداية الفرد وتنظيم حياته الأخلاقية، دون أن تشكل مجموعة قوانين ملزمة للمجتمع، وهو ما يفسر لماذا تفصل معظم الدول ذات الأغلبية المسيحية بين حرية التعبير والنظام القانوني للدين، وتمنح الأفراد مساحة أكبر للنقد أو السخرية من الرموز الدينية طالما لم يحدث تحريض مباشر على العنف. في المقابل، يجمع الإسلام بين البعد العقائدي والتشريعي، إذ يمثل القرآن والسنة مصدرًا للتشريع الأخلاقي والاجتماعي والسياسي. وبالتالي، تصبح حدود حرية التعبير في المجتمعات الإسلامية مرتبطة بمراعاة الذات الإلهية والتشريعات المستمدة منها. أي أن النقد أو السخرية من الرموز الدينية قد يُنظر إليه كخطر على النظام الأخلاقي والاجتماعي المستند إلى الدين.

الدين في المجتمعات الإسلامية ليس خيارًا فرديًا أو تقليدًا ثقافيًا، بل هو جوهر الهوية الجماعية وأساس الشرعية السياسية للأنظمة، لذلك كانت القوانين أكثر صرامة فيما يتعلق بازدراء الأديان أو المساس بالذات الإلهية والأنبياء.

الدين في المجتمعات الإسلامية ليس خيارًا فرديًا أو تقليدًا ثقافيًا، بل هو جوهر الهوية الجماعية وأساس الشرعية السياسية للأنظمة، لذلك كانت القوانين أكثر صرامة فيما يتعلق بازدراء الأديان أو المساس بالذات الإلهية والأنبياء.
ففي مصر، أدانت محكمة جنايات القاهرة عام 2022 مستخدمًا على وسائل التواصل الاجتماعي لنشر محتوى اعتُبر مسيئًا، وتم تغريمه بالسجن لفترة محدودة بموجب المادة 98 من قانون العقوبات المصري. وفي المغرب، صدر حكم قضائي عام 2021 بحق ناشط على الإنترنت بتهمة التحريض على الكراهية الدينية بعد منشورات مسيئة للرموز الدينية، وفق المادة 267 من القانون الجنائي المغربي. وفي تونس، أصدرت المحكمة الإدارية حكمًا بحظر محتوى على منصات التواصل الاجتماعي مسيئًا للرموز الدينية، في إطار حماية النظام العام وفق المادة 52 من الدستور التونسي. ومع التطور الحاصل في الإعلام وظهور الإعلام الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي، أضيفت طبقة جديدة من التعقيد. فالقضايا المتعلقة بـ"التحريض الإلكتروني"، و"الخطاب المسيء"، و"التشهير" أصبحت متكررة، مما دفع العديد من الدول إلى تحديث تشريعاتها بما يتماشى مع حماية حقوق الآخرين دون إخلال بجوهر حرية التعبير، من قبيل تجريم التحريض على الكراهية الدينية والتشهير بالأديان عبر الإنترنت.

والخلاصة الأساسية

أن حرية التعبير ليست مفهومًا كونيًا واحدًا، بل متعدد الأبعاد ويتشكل بحسب السياق الفلسفي والثقافي والسياسي، ففي الغرب الليبرالي نلاحظ تنوعا واضحا يتراوح بين الإطلاق الأمريكي والتقييد الأوروبي، بينما في العالم العربي والإسلامي يؤثر الحضور الاجتماعي والثقافي للدين في الحياة العامة في رسم ضوابط لحرية التعبير.

إن هذه التعددية لا تعني استحالة الاتفاق على معايير مشتركة، لكنها تكشف أن النقاش حول حرية التعبير سيظل مفتوحًا، وأن التحدي الأكبر يتمثل في صياغة معادلة تضمن التمييز بين التعبير عن الرأي وحق النقد والاختلاف الذي ينبغي حمايته وتحصينه والدفاع عنه وبين خطاب الإهانة والإساءة والاستفزاز الذي ينبغي محاصرته وتقييده حماية لحرية التعبير نفسها.