أفكَار

غزة وميراث معسكرات الاعتقال.. حين يستيقظ التاريخ في الحاضر

لن يردع الاعتداء عن غزة إلا اتساع الطوفان أو خوف الغرب على عرش السيسي خوفا من الطوفان الكبير.. الأناضول
في سياق النقاشات الفكرية والسياسية حول أبعاد الحرب الإسرائيلية على غزة، يكتب الوزير التونسي السابق والمفكر السياسي أحمد قعلول مقالًا حصريًا لـ "عربي21"، مستندًا إلى قراءة تاريخية عميقة تربط الحاضر بالماضي، وتستحضر تجارب الشعوب في مواجهة الاستعمار والهيمنة. ينطلق قعلول من تحليل جذور سياسات العقاب الجماعي في التاريخ الغربي، ويقارنها بما يتعرض له الشعب الفلسطيني اليوم، واضعًا ما يجري في غزة ضمن سياق أوسع لفهم التحولات الجيوسياسية الراهنة، وحالة الانكشاف الأخلاقي للنظام الدولي. ومن خلال هذا المنظور، يتناول فكرة “محتشدات الاعتقال” ليس كمفهوم تاريخي فحسب، بل كواقع يتهدد غزة في القرن الحادي والعشرين.

معسكرات الاعتقال.. تاريخ

اشتهرت النازية خلال الحرب العالمية الثانية بجرائمها ضد الإنسانية، خاصة من خلال معسكرات الاعتقال التي احتجز فيها مئات الآلاف في ظروف قاسية ولا إنسانية، وأصبح ذلك جزءًا أساسيًا من الذاكرة الغربية المعاصرة، بفعل ما نقلته السينما والأدب والتوثيق التاريخي.

وقد ركزت السردية الغربية بعد الحرب على إبراز المأساة اليهودية كجزء مركزي من تلك الأحداث، وهو ما أتاح لإسرائيل لاحقًا توظيف هذه الذاكرة التاريخية لتبرير سياساتها في المنطقة، كما أشار الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي في كتابه الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية. وقد اعتبر غارودي أن جرائم الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين تأتي في سياق انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، تشبه في طبيعتها ممارسات أنظمة استبدادية وفاشية أخرى في التاريخ، وأن ضحايا الاضطهاد في العالم العربي هم أيضًا من أصول سامية، مما ينقض الاتهام الجاهز بـ”معاداة السامية” لكل من ينتقد هذه السياسات.

محتشدات الاعتقال في غزة:

مع اقتراب اكتمال سنتين على الحرب التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني في غزة، ومع فشل هذه الحرب في تحقيق أهدافها تقدم رئيس الوزراء الإسرائيلي بخطة لاكتساح كامل لقطاع غزة.

واقع الأمر أن ما تقترفه اسرائيل من جرائم في غزة وبقية الأراضي الفلسطينية لا يخرج في مجمله عن الجرائم التي ارتكبتها المنظومة الغربية في تاريخها القريب والبعيد، وما زالت اسرائيل والمنظومة الصهيونية تمثل خلاصة المنظومة الغربية وأعتى درجات توحشها.
لا يكاد المتابعون يفهمون هدف هذه الخطوة التي توسع في مجال التطرف الصهيوني فما هو الهدف المنشود من عملية الاكتساح هذه؟ هل تقصد احتلال القطاع وان هي فعلت هل تقدر على الصمود في احتلالها؟ فالجميع يدرك التكلفة العالية لاحتلال القطاع الذي إنما غادرته القوات الصهيونية سابقا بسبب ارتفاع كلفة احتلاله.

فما هي الخطوة المقبلة التي سيقوم بها نتنياهو وعصابات الصهيونية المتطرفة؟

يخبرنا التاريخ أن القوى المتجبرة عندما تعجزها مقاومة الشعوب المضطهدة تلجأ للحلول الراديكالية الجذرية ولا يردها في ذلك ضمير ولا قانون. ولذلك فإن الخطوة المتوقعة من نتنياهو هي ليست احتلال غزة، بل تحويلها لمحتشد اعتقال القرن الواحد والعشرين، فنحن مقدمون على محتشدات صهيونية ضد منابع العرق السامي.

محتشدات الاعتقال.. الإرث الغربي الثقيل

تخصص محتشدات الاعتقال لاحتجاز مجموعات كبيرة من المدنيين دون محاكمة أو إجراء قانوني، وذلك في ظروف قاسية غير انسانية، بهدف منع حركتهم ووضعهم في ظروف حياتية صعبة تجعل البقاء على الحياة هو الهدف الأعلى.

وفي هذه الحالة يقع اضطرار تلك المجموعة البشرية إلى البحث عن الحد الأدنى للحاجيات البشرية وهي الحفاظ على الحياة. فتضطر المجموعة إلى التخلي عن المرضى وكبار السن وتنقلب معايير الحياة الجماعية وتدفع للتخلي عن أغلب القيم الإنسانية. وتهدف هذه المحتشدات إلى السيطرة على العدو، وتسليط عقاب جماعي عن النسيج المجتمعي الذي أنتج النخب التي تقاوم القوى الغاصبة، كما يمكن أن يتم استغلال هذه المجموعة البشرية لتحويلها لنوع من العبودية المسخرة لخدمة تلك القوى.

ظهر مصطلح "محتشدات الاعتقال" reconcentración (إعادة التركيز) لأول مرة خلال الحكم الاستعماري الإسباني في كوبا، وذلك خلال حرب العشر سنوات (1868–1878) وقد ظهرت هذه المحتشدات في عدد من تجارب الهيمنة الغربية نذكر منها التجارب التالية:

1 ـ استخدمت القوات الإسبانية تكتيكات التحشيد من أجل احتجاز المدنيين الريفيين وقطع الدعم عن المتمردين الكوبيين الذين يقاتلون من أجل الاستقلال. وذلك أن الإسبان كانوا يجدون مشكلا في قمعهم للثورة الكوبية بما أنهم يواجهون صعوبة في التمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين لذا كانت إحدى طرق حل هذه المشكلة هي حشد الجميع ووضعهم في المعسكرات. وقد أجبر مئات الآلاف من السكان على الدخول إلى المعسكرات حيث أدت الظروف القاسية إلى حوالي 150,000 وفاة بحلول عام 1898، بسبب الجوع والأمراض.

إن مشهد أطفال ورجال ونساء غزة وهم محاصرون في محتشداتهم محروسين بالحدود المصرية من جهة والدبابات الإسرائيلية بينما طائراتها تلقى عليهم مؤونة لا تكاد تبقي على حياتهم ولا تحييهم وتقتل ضعافهم وتشرد أطفالهم، مشهد لا شك سيهز ما بقي من الضمير الإنساني.
2 ـ واجهت بريطانيا، وهي القوة العظمى في ذلك الحين، مقاومة شرسة دامت أكثر من ثلاث سنوات من السكان البيض لجنوب أفريقيا خلال ما سمي بحرب "البور الثانية"، إذ عجزت عن تحقيق هدفها في السيطرة.  وبما أن البريطانيين لم يريدوا التورط في عملية غزو مباشر واحتلال للأرض فإنهم لجأوا لاستراتيجية "محتشدات الاعتقال" بدءًا من عام 1915. وقاموا باحتجاز أكثر من 200,000 من المدنيين في معسكرات، مما أدى إلى عشرات الآلاف من الوفيات بسبب الأمراض وسوء التغذية وهو الأمر الذي أثار الغضب العام في بريطانيا ضد وحشية المعسكرات.

3 ـ اعتمدت الولايات المتحدة تكتيكات مشابهة في حرب الفلبين الأمريكية (1899–1902)، حيث أنشأت معسكرات مثل "تاناوان" في مقاطعة "باتانغاس" بحلول عام 1901، حيث عانى المدنيون من ظروفً مرعبة كان الهدف منها قمع المقاومة الفلبينية.

كما سبق للولايات المتحدة خلال ثلاثينيات القرن التاسع عشر، ان احتجزت قبائل "الشيروكي" وغيرها من الهنود الأمريكيين قبل نقلهم قسرًا على طول ما عرف ب "طريق الدموع"، وذلك بغرض السيطرة وإفراغ الأرض من سكانها لصالح المستوطنين.

4 ـ في 1904 ـ 1907، استخدمت ألمانيا معسكرات في جنوب غرب أفريقيا (ناميبيا الحديثة) ضد شعوب "الهيريرو والناما"، حيث أصدرت أوامر إبادة تحت قيادة الجنرال لوثار فون تروثا، مما أدى إلى حوالي 70,000 وفاة من خلال العمل القسري والحرمان المتعمد.

وفي ألمانيا النازية، كان لدى الألمان نوعين من المعتقلات واحدة للاعتقال وثانية للقتل. وقد بدأت المعسكرات بعد فترة وجيزة من صعود أدولف هتلر في عام 1933، مع افتتاح داخاو في 22 مارس كأول معسكر، في البداية للسجناء السياسيين تحت قيادة SA وSS. ثم تحولت الأهداف من التخويف والقتل للمعارضين إلى العمل القسري لمشاريع SS وسط نقص العمالة الألمانية، ثم إلى الإبادة الجماعية خلال "الهولوكوست".

ماذا ستفعل الصهيونية بقيادة نتنياهو؟

يؤكد John Joseph Mearsheimer "جون مرشايمر" أن معادلة موازين القوى تشهد انقلابا فريدا. إذ ولأول مرة تتحول إحدى الأدوات التي تستعملها الإمبراطوريات من كونها أداة إلى مركز تحكم في ارادة وقرار تلك الامبراطورية بحيث تتصرف، هذه الإمبراطورية، لا بناءا على مصالحها الاستراتيجية، بل تجنح لسياسات تهدد تلك المصالح لحساب الأداة التي صنعتها.

واقع الأمر أن ما تقترفه اسرائيل من جرائم في غزة وبقية الأراضي الفلسطينية لا يخرج في مجمله عن الجرائم التي ارتكبتها المنظومة الغربية في تاريخها القريب والبعيد، وما زالت اسرائيل والمنظومة الصهيونية تمثل خلاصة المنظومة الغربية وأعتى درجات توحشها.

إن ما يقترفه نتنياهو من جرائم لا يخرج عن مسار الجرائم التي ارتكبتها هذه المنظومة والمتوقع هو أن تسعى اسرائيل لتحويل غزة محتشدا لاعتقال الشعب الفلسطيني وتجويعه حتى الموت.

الحقيقة ان الانقلاب الذي يحصل ليس في تحول الأداة الى مصدر تحكم، بل في ارتكاس العالم الغربي الى مرحلة التوحش التي ولد منها وذلك بحسب المقاربة التي يتحدث عنها الأنثروبولوجي البريطاني "إرنست غيلنر" اذ يقول ان الشعوب الغربية لما كانت في حالة فقر وجوع كانت تعيش نوعا من حالة الاستئذاب ولذلك فإنها كانت تتصرف كالذئاب إذ تخرج للصيد والنهب فاحتلت شعوبا ونهبت ثرواتها وقتلت أبناءها واغتصبت أراضيها وتقاتلت ذئابها فيما بينها على نهب تلك الثروات ثم انها لما شبعت تأنست وتحولت ذئابها إلى كلاب أليفة. ثم يضيف أن هذه الكلاب عندما تجوع مرة أخرى فإنها تستأذب من جديد وتخرج للصيد والنهب مرة أخرى.

إن مصر هي قلب الأمة ومنبع نهضتها ولا نهضة للشام دون مصر ولا نهضة لمصر دون شام وإنما نهضت الأمة لما كانت الشام والعراق ومصر في سياق حضاري واحد.
ان الكيان الصهيوني يمثل بعض الذئاب التي اصطنعتها المنظومة الغربية خلال مرحلة تأنسها وغرستها في قلب العالم العربي والإسلامي وفي قلب حركة الحضارة الانسانية، وهي بذلت كل جهدها لتبقي على حالة التوحش لدى هذا الكيان المصطنع.

كما تمثل الصهيونية من جهة أخرى الحالة المرضية التي يتلبس فيها الضحية شخصية جلاده.

ان المنظومة الغربية وقد أذن فجر سلطانها على الأفول وبرزت قوة جديدة في العالم تزاحمها على القمة ولم يبد منها من يرث سلطان امبراطوريتها إذ وقد ورثت الإمبراطورية البريطانية الإمبراطورية الهولندية عند أفولها ثم ورثت الإمبراطورية الأمريكية سابقتها البريطانية فإنه لا يبدو أن الغرب قادر اليوم على إنتاج قوة ترث سلطانه وهيمنته وبدت الصين منفردة في صعودها السريع. وذلك أن هذه المنظومة اذ أدركت اقتراب افول شمسها لم يبق لها إلا العنف وسيلة للدفاع على بقائها.

ولذلك فإن ما يفسر تعنت نتنياهو ليس فقط تطرفه، ولكن حالة التوحش التي دخلت فيها المنظومة الغربية، واندراجه هوضمن استراتيجيتها.

ولا يهم في هذه المرحلة أن يحتج العالم الذي يشاهد بشاعة هذه الجرائم، بل لعل المطلوب ان يرى العالم بطش هؤلاء وجبروتهم كي يسلموا ويرتدعوا عن مجرد التفكير في مقاومته.

إن ما تقوم به غزة اليوم والمقاومة الفلسطينية هو نيابة ومقاومة لما بقي من الضمير والروح الإنسانية في حالتها الفطرية العامة والواسعة ضد هذه الوحشية القادمة والتي تريد ان تحكم العالم.

إن مشهد أطفال ورجال ونساء غزة وهم محاصرون في محتشداتهم محروسين بالحدود المصرية من جهة والدبابات الإسرائيلية بينما طائراتها تلقى عليهم مؤونة لا تكاد تبقي على حياتهم ولا تحييهم وتقتل ضعافهم وتشرد أطفالهم، مشهد لا شك سيهز ما بقي من الضمير الإنساني.

والمطلوب لدى القوى الغربية المهيمنة اليوم هو تهجين هذا الضمير وسحر عينيه حتى يرى الشر خيرا والخير شرا، إنه زمن المسيح الدجال، وليس هناك أمل في مسيح منقذ ولا مهدي عائد فقد انتهى زمن الأنبياء والمرسلين ومحمد صلى الله عليه وسلم هو خاتمهم وانما ورثت الأمة عنه الأمانة وهي مكلفة بها.

إن نبي هذا الزمان هو روح الأمة مجتمعة مقاومة فإن انبعثت انبعث معها الأمل وتجدد معها الدين.

إن مصر هي قلب الأمة ومنبع نهضتها ولا نهضة للشام دون مصر ولا نهضة لمصر دون شام وإنما نهضت الأمة لما كانت الشام والعراق ومصر في سياق حضاري واحد.

واليوم تم تفكيك العراق، والشام تعاني، ومصر تحت الأسر منخنقة في غزة ولن تتنفس مصر حتى تتحرر غزة، ولا أمل أن يحرك العالم إصبعه لرفع هذا الخناق الا اذا تحركت مصر.

لن يردع الاعتداء عن غزة إلا اتساع الطوفان أو خوف الغرب على عرش السيسي خوفا من الطوفان الكبير.

يقول الشيخ راشد الغنوشي من سجنه خلال الأشهر الأولى من الطوفان: "إن هذا الطوفان سيقتلع كل شيء وهي ولادة عصر جديد تحكمه الحريات والشعوب، وأكبر طوفان سيكون في مصر فحاكمها لا يمكنه ان يصمد أمام غضب شعب تجتاح غزة أمامه وعلى بعد أمتار. لذلك نبه الصهاينة أن الإجتياح سيدفع الى تدخل باقي دول المنطقة وعرش السيسي أول العروش المهددة."