أفكَار

عن النهضة الكورية.. كيف صنعت اللغة والثقافة أساس القوة الناعمة والهوية الوطنية؟

تتميز التجربة الكورية الجنوبية بالدعم الأمريكي العسكري والاقتصادي في سياق التقاطب الدولي بين الشرق والغرب، لكنها تميزت أيضا بقدرتها الاستثنائية على بناء مشروع حضاري متكامل.. (إكس)
خلال الأسبوع الماضي شاركت بمعية عدد من الأساتذة في المؤتمر الدولي للعلوم السياسية الذي احتضنته العاصمة الكورية "سيول" خلال الفترة ما بين 12 و16، وهو أكبر مؤتمر عقد في تاريخ الجمعية الدولية للعلوم السياسية الممتد على مدار 76 عامًا، ساهم فيه حوالي 3370 مشاركا من علماء السياسة والباحثين والمهنيين والطلاب من أكثر من 95 دولة، ناقش فيه المشاركون في عشرات الورشات الأسئلة الملحة حول موضوع المؤتمر، وهو "مقاومة الاستبداد في المجتمعات المستقطبة".

وقد كانت مناسبة علمية متميزة للانفتاح على المدارس والأفكار المتعلقة بعلم السياسة، ولتبادل مناهج التحليل والتفسير المتعلقة بالظواهر السياسية المتعددة.. لكنها كانت أيضا مناسبة للاطلاع على ما حققته دولة كوريا الجنوبية من تقدم علمي وتكنولوجي وتنموي جعلت اقتصادها يحتل المرتبة 14 في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي لتصبح واحدة من الاقتصادات الكبرى لمجموعة جي-20.

 في هذا المقال أستعرض بعض أسرار النهضة في هذا البلد الذي أزوره للمرة الثانية..

خلفية تاريخية سريعة

تعد تجربة كوريا الجنوبية من أبرز النماذج العالمية في مسار التحول من دولة منكوبة بالحرب والفقر إلى قوة اقتصادية وثقافية مؤثرة على الصعيد الدولي، فمنذ انقسام شبه الجزيرة الكورية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، واندلاع الحرب الكورية (1950-1953)، وجدت كوريا الجنوبية نفسها أمام تحديات بنيوية هائلة، تفاقمت في ظل الانقسام السياسي والتوترات المستمرة مع الشمال.

تتميز التجربة الكورية الجنوبية بالدعم الأمريكي العسكري والاقتصادي في سياق التقاطب الدولي بين الشرق والغرب، لكنها تميزت أيضا بقدرتها الاستثنائية على بناء مشروع حضاري متكامل، استند إلى عناصر داخلية فاعلة، وفي مقدمتها اللغة والثقافة.

تعد تجربة كوريا الجنوبية من أبرز النماذج العالمية في مسار التحول من دولة منكوبة بالحرب والفقر إلى قوة اقتصادية وثقافية مؤثرة على الصعيد الدولي، فمنذ انقسام شبه الجزيرة الكورية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، واندلاع الحرب الكورية (1950-1953)، وجدت كوريا الجنوبية نفسها أمام تحديات بنيوية هائلة، تفاقمت في ظل الانقسام السياسي والتوترات المستمرة مع الشمال.
لقد مثل الارتباط باللغة الكورية (الهانغول) ركيزة أساسية في الحفاظ على الهوية الوطنية وتعزيز روح الانتماء، خاصة في مواجهة آثار الاستعمار الياباني الذي حاول طمس الخصوصية اللغوية والثقافية للشعب الكوري، كما أدّت الثقافة الكورية، بتعبيراتها المتنوعة ـ من الفنون التقليدية إلى الشعر والأدب والسينما والموسيقى دورا محوريا في صناعة ما يُعرف اليوم بـ"القوة الناعمة الكورية" التي باتت أحد أسرار نجاحها العالمي.

في هذا السياق، نحاول تسليط الضوء على بعض أوجه النهضة الكورية المعاصرة من خلال البعدين اللغوي والثقافي، باعتبارهما عنصرين حاسمين في صياغة الهوية الوطنية وتحقيق التنمية الشاملة، في تجربة تستحق التوقف والتأمل، وربما الاقتداء.

حين تصبح اللغة مفتاحًا للنهضة..

لم تكن التقنية أو الاقتصاد أول ما لفت انتباهي في كوريا، بل كانت اللغة، بحيث تُهيمن اللغة الكورية على الفضاء العام بكل وضوح: اللافتات، أسماء المحال، قوائم الطعام، وحتى الإعلانات، كلها بالكورية تقريبا.

هذا الحضور الطاغي للغة الكورية في كافة مناحي الحياة العامة والخاصة، ليس مجرد مظهر ثقافي، بل هو تجسيد حي لسياسة لغوية واعية جعلت من اللغة الأم أداة محورية في مشروع النهضة الكورية، فمن اللافت أن الفضاء العام في كوريا الجنوبية لا يكاد يعترف إلا باللغة الكورية، أما المكتبات العامة، المنتشرة بكثافة في مختلف المدن، فتقدم محتوى معرفيا وتعليميا يكاد ينحصر في هذه اللغة، بما في ذلك المؤلفات العلمية والتقنية. والأهم من ذلك، أن لغة التدريس في جميع المراحل التعليمية، بما فيها الجامعية والتقنية، هي الكورية، بحيث يتم تدريس العلوم الإنسانية والدقيقة والتكنولوجية بهذه اللغة، بينما تقتصر الإنجليزية على بعض التخصصات أو الجامعات ذات الطابع الدولي، وغالبا بوصفها لغة مكملة وليست بديلة.

خلال المؤتمر، وأثناء محاولة البحث عن مراجع أكاديمية باللغة الإنجليزية حول التاريخ الكوري أو حول مقررات تدريس العلوم السياسية أو الفكر السياسي الكوري، لم نعثر على شيء يذكر في المكتبات المحلية، إلا عبر الطلب الإلكتروني.

هذا الانكفاء المقصود على اللغة الكورية في المجال الأكاديمي ليس وليد الصدفة، بل هو نتاج خيار استراتيجي عميق: توطين المعرفة باللغة الأصلية.

تقدم كوريا الجنوبية، من خلال هذه السياسة اللغوية، نموذجا يؤكد حقيقة تاريخية طالما أكدتها تجارب النهضة في العديد من النماذج المتقدمة: لا تنمية علمية أو حضارية خارج إطار اللغة الوطنية. فاللغة ليست فقط وسيلة تعبير، بل هي وعاء للمعرفة، وأداة للتفكير، وبنية تحتية لكل مشروع تنموي ناجح.

في الوقت الذي ما تزال فيه بعض العقليات لدينا تجادل في جدوى التمسك باللغة الأم في التعليم والبحث العلمي. وهنا تبدو كوريا الجنوبية مثالا يعبر بوضوح عن النجاعة والفعالية المؤكدة لهذا الخيار، لقد استطاعت أن تجعل من لغتها جسرا للتقدم، لا حاجزا أمام الانفتاح، وأن تثبت أن اللغة الأم ليست عائقا أمام الحداثة الحقيقية، بل شرطا من شروطها.

الثقافة في كوريا الجنوبية.. أو حين تُصبح المعرفة أسلوب حياة

الثقافة في كوريا تعبير عن مشروع حقيقي تمتلكه الدولة المركزية والبلديات والجمعيات المتخصصة في الشأن الثقافي بمختلف تعبيراته، بالإضافة إلى القطاع الخاص.

الثقافة في كوريا تختلط بالناس في حياتهم اليومية على مدار السنة وتشكل جزءا من كينونتهم وانتمائهم الحضاري.

لم تكن التقنية أو الاقتصاد أول ما لفت انتباهي في كوريا، بل كانت اللغة، بحيث تُهيمن اللغة الكورية على الفضاء العام بكل وضوح: اللافتات، أسماء المحال، قوائم الطعام، وحتى الإعلانات، كلها بالكورية تقريبا.
يكفي أن تتجول في واحد من أكبر المراكز التجارية في العاصمة الكورية "كويكس" التي تزخر بأنواع "الماركات " العالمية في مجال اللباس والموضة والعطور وأفخم المطاعم والمقاهي وغيرها من المنتوجات الاستهلاكية، حتى تستوقفك خزانة كبيرة جدا، في قلب المركز التجاري جرى تصميمها بعناية هندسية جميلة جدا لاستعراض آلاف الكتب (لا أبالغ آلاف الكتب) ليس من أجل البيع، ولكن من أجل القراءة والمطالعة في عين المكان، نعم الخزانة مجهزة بعشرات المقاعد الموزعة على ثلاثة طوابق وفق هندسة عمرانية بديعة وأضواء موزعة بشكل يغري بالجلوس من أجل القراءة، نظام الخزانة قائم على ان يأخذ الشخص الكتاب الذي يريد ويجلس في المكان الذي يختاره داخل الخزانة ويقرأ المدة التي يريد ثم يترك الكتاب فوق الطاولة، ليتكلف به القائمون على المكان.

تضم الخزانة جميع الحقول المعرفية من التاريخ إلى السياسة مرورا بعلم النفس واللغة والجغرافيا والادب وغيره من الحقول المعرفية الأخرى، طبعا جميع الكتب المعروضة كتبت باللغة الكورية، وهو ما تناولنا أبعاده في الفقرة السابقة.

في كوريا الجنوبية، الثقافة ليست كلمة بسيطة للاستهلاك في التداول السياسي والإعلامي بشكل سهل، وليست هي تنظيم معرض دولي للكتاب لمدة أسبوع على مدار السنة، ولا يمكن اختزالها في مهرجان سنوي للطرب والغناء، يشارك فيه من هب ودب من المغنيين والمغنيات.. لا، الثقافة هي الكتاب أساسا، بحيث تندهش وأنت ترى في كل مقاطعة من المقاطعات الاثنا عشر لمدينة سيول مكتبة ضخمة تضم عشرات الآلاف من الكتب (لا أبالغ إذا قلت إن المكتبة الواحدة تعادل أو تفوق المكتبة الوطنية المتواجدة في قلب الرباط) تخيلوا مدينة الرباط لوحدها تتوفر على أربع مكتبات من حجم المكتبة الوطنية.

لا يقتصر الأمر على ذلك ولكن هناك معارض دائمة، نعم، دائمة، باستثناء أوقات الحرارة الشديدة أو المطر الغزير، في مختلف الساحات القريبة من المنشآت التاريخية والعمرانية مثل القصور التاريخية والمتاحف وغيرها، هي معارض للقراءة وليس للبيع.. القصور التاريخية والمتاحف لا حصر لها، وزوارها من المواطنين الكوريين يتلقون دروسا حية مباشرة تمكنهم من معرفة التاريخ الكوري واستيعاب مراحله ومحطاته بطريقة بيداغوجية سهلة وانسيابية، وذلك عبر الرسوم والتحف واللوحات وغيرها..

في كوريا الجنوبية، الثقافة ليست كلمة بسيطة للاستهلاك في التداول السياسي والإعلامي بشكل سهل، وليست هي تنظيم معرض دولي للكتاب لمدة أسبوع على مدار السنة، ولا يمكن اختزالها في مهرجان سنوي للطرب والغناء، يشارك فيه من هب ودب من المغنيين والمغنيات.. لا، الثقافة هي الكتاب أساسا
الطفل الكوري ينشأ وهو يعرف تاريخه جيدا، فيكفي أن يزور المتحف الوطني وأيضا المتحف العسكري والمنطقة الحدودية العازلة مع كوريا الشمالية المنزوعة السلاح ليعرف تاريخه بشكل جيد جدا.. الفضاء العام هو فضاء للثقافة وبناء الوعي وليس فضاء لممارسة التهريج والتفاهة باسم الفن المفترى عليه..

في أحد البرك المائية الكبيرة وسط سيول، يجري تنظيم مسابقات حول القصائد الشعرية، حيث يتنافس الشعراء والأدباء على استعراض قصائدهم المكتوبة داخل لوحات خشبية جميلة أمام الزوار الذين يقفون طويلا لقراءة الأشعار والاستمتاع بها وهم يتجولون على أطراف البركة المائية المستديرة.. القاسم المشترك بين كل هذه الأشكال الثقافية التي عاينتها، هو المجانية بحيث إن الدولة والبلديات والقطاع الخاص، كلهم يستثمرون في الثقافة ليس بحثا عن أرباح مادية آنية، ولكن بحثا عن مواطن يعرف تاريخه وهويته ويعتز بها، الدولة تستثمر في الوعي وفي بناء الإنسان على المدى الطويل لأنها تعي جيدا كلفة الجهل وتعني ماذا ستخسر عندما يكون عندها جيل من الشباب التائه بدون وعي بتاريخه ولا حاضره ولا مستقبله.

والنتيجة:

أن في مثل هذه السياقات الثقافية تنتعش حياة سياسية مليئة بالحيوية والدينامية، يكفي أن كل سبت مساء تزدحم شوارع مدينة سيول بالمظاهرات السياسية التي تنظمها قوى المعارضة احتجاجا على السياسات المتبعة من طرف الحزب الحاكم، بالإضافة إلى التجمعات الخطابية التي تنظم في الشارع العام من طرف الجمعيات الدينية التبشيرية أو من طرف فعاليات مختلفة بمناسبة أو بأخرى.

كما تشهد الساحات العامة في العاصمة الكورية "سيول" تنظيم فعاليات تضامنية منتظمة مع القضية الفلسطينية في عطلة نهاية كل أسبوع، تعبيرا عن رفض حرب الإبادة الجماعية ودعما للحق الفلسطيني المشروع، وتجسد هذه المبادرات الشعبية بعدا عميقا للعلاقة بين الثقافة والالتزام السياسي، حيث تتحول الثقافة إلى أداة فعالة لتشكيل الوعي الجمعي وتوجيهه نحو المواقف الأخلاقية والإنسانية.

ومن خلال هذا التفاعل الحي، يظهر كيف أن الثقافة، حين تكون أصيلة ومرتبطة بالقيم، تنتج موقفا سياسيا صحيحا لا يقوم على مصلحة آنية أو حسابات ضيقة، بل على إدراك عميق للعدل ورفض الظلم، تماما كما لعبت الذاكرة الثقافية والنضالية للشعب الكوري دورا محوريا في مواجهة الاحتلال والاستعمار، فصارت الثقافة جزءا من معركته للتحرر وبناء دولته الحديثة.