أفكَار

أحاديث الفتن وأشراط الساعة بين الغيب والتأويل.. معالم للفهم في زمن الاضطراب

ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث من الغيبيات، مما صح النقل به عنه، لا يجوز الشك فيه..
مع توالي التحديات التي تعيشها الأمة، وبروز عوامل الضعف والتفرقة، وتغول الكيان الصهيوني وسعيه إلى تحقيق حلمه بإنشاء إسرائيل الكبرى من البحر إلى النهر، وبإعادة صياغة الشرق الأوسط، تواتر لدى بعض علماء المسلمين وطلبة العلم استعمال بعض أحاديث آخر الزمان، وأحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة، سواء لتثيبت الفئة المجاهدة في غزة، أو في رسم صورة المعركة الفاصلة في الشام، أو في بيان اقتراب  يوم القيامة، بظهور بعض علاماتها (قتال اليهود).

وإذا كان دأب العلماء القدامى الحذر في التعامل مع هذه الأحاديث، وعدم الخوض في تحققاتها في الواقع، فإن بعض علماء اليوم، تجاوزوا هذه الاحترازات، وبدأ بعضهم يناقش تفاعل الأحداث السياسية ويستشرف مآلاتها وفقا لما ورد في بعض هذه الأحاديث، مما استدعى معه تأطيرا علميا، يرشد منهج التعامل مع هذه الأحاديث، ويضع احترازات تحول دون توظيفها بما ينافي مقاصدها.

في المقدمات المفاهمية

يتوجه التحديد المفاهيمي إلى ثلاث مفردات أساسية، هي الفتن، والملاحم، وأشراط الساعة. فأما الفتن، فقد أوصل ابن الجوزي معانيها في القرآن إلى خمسة عشر معنى، منها الشرك، والابتلاء والاختبار والمحنة، والعذاب والإثم. وردت في السنة أيضا بهذه المعاني، وبمعان أخرى كثيرة، منها القتال. وأما مفهوم الملاحم: فذكر ابن منظور أنها الموقعة العظيمة القتل، وكذلك قال صاحب مرقاة المفاتيح، وقد وردت الملحمة في الحديث بمعنى القتال العظيم بين المسلمين والكفار، وقتال الملاحم يختلف عن قتال الفتن، فالفتنة قتال المسلمين بعضهم، والملاحم قتالهم الكفار. وأما مفهوم أشراط الساعة، فعلاماتها على ما قال الجوهري، وقد وردت لفظة أشراط الساعة في القرآن الكريم بهذا المعنى في قوله تعالى: "فهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً، فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا، فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ"(محمد: 18). ففسر ابن كثير رحمه الله: (أَشْرَاطُهَا) بمعنى أمارات اقترابها".

ولا فرق في معنى الأشراط، بين دلالاتها اللغوية ودلالتها الشرعية، فالمقصود بأشراط الساعة في التحديد الشرعي، العلامات التي تسبق يوم القيامة، وتدل على قربها وقدومها. قال الحافظ ابن حجر في شرح معنى في الأشراط: "العلامات التي يعقبها قيام الساعة".

في العلاقة بين أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة

كان من صنيع أئمة الحديث أنهم كانوا يجمعون أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة في كتاب واحد، ولم يسلكوا  بشكل صريح مسلك التمييز بينها، فكانوا رحمهم الله، على هدي السنة النبوية، يوردون أحاديث الفتن على عمومها من غير تفصيل فيما يدخل ضمن أشراط الساعة، وما نبهت السنة النبوية عن وقوعه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ويوردون ذلك كله ضمن الفتن التي جعلتها الأحاديث أمارات وعلامات على الساعة، ويمزجون في أحاديث الملاحم ما يندرج ضمن تباشير الحديث لأمته من الانتصارات التي سيحققونها على الأمم العظيمة بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، وبين المعارك التي تعلم وتشعر بقرب حين الساعة.

لا فرق في معنى الأشراط، بين دلالاتها اللغوية ودلالتها الشرعية، فالمقصود بأشراط الساعة في التحديد الشرعي، العلامات التي تسبق يوم القيامة، وتدل على قربها وقدومها. قال الحافظ ابن حجر في شرح معنى في الأشراط: "العلامات التي يعقبها قيام الساعة".
 وقد كان قصد أئمة الحديث من هذا الجمع، هو التنبيه على أحوال الشدة والمحنة التي ستواجهها الأمة، سواء في أحوال الفتن العامة، أو الفتن المخصوصة بالدلالة على قرب الساعة، أو في الملاحم العامة للمسلمين، أو الملاحم الخاصة التي جعلتها الأحاديث الشريفة ضمن أشراط الساعة. ولذلك، لم يخوضوا في كتبهم في التمييز بين هذه الأجناس، فذكروها في كتاب واحد، أو جعلوا لكل جنس كتاب، وجعلوا هذه الكتب متتالية إشعارا منهم بارتباط بعضها ببعض، كما هو صنيع الإمام الترمذي وغيره، ومنهم من ذكر بعض أشراط الساعة ضمن أحاديث الفتن، لكن اختار منها ما يدخل في مسمى الفتن دون غيرها، كما فعل الإمام حنبل بن إسحاق في كتابه (الفتن) .

أحاديث الفتن والملاحم وأشارط الساعة

وردت أحاديث كثيرة في كتاب الفتن والملاحم وأشراط الساعة، تشعر بحال وحدة الأمة واجتماعها في آخر الزمان، والتحولات التي طرأت على هذه الحال، والأسباب المفسرة لذلك، نذكرها بعضها مرتبا وفق العناوين الآتية:

1 ـ الفرقة وضعف وازع الوحدة والاجتماع داخل الأمة: تطرد أحاديث الفتنة وآخر الزمان في تقرير واقع الفرقة، وضعف وازع الاجتماع لدى الأمة، فقد وردت في هذا المعنى أحاديث كثيرة نذكر منها:

ـ حديث حذيفة بن اليمان يقول: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن. قلت: وما دخنه: قال قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم، وتنكر. قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها، قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك" .

والشاهد في الحديث على ضعف وازع الوحدة والاجتماع، التحول من الخير إلى الشر الذي يخالطه دخن، حيث تستوي حالة الإقرار على ما استجد في أحوال الأمة مع حالة الإنكار، ثم التحول إلى الشر حيث يتصدر المشهد دعاة على أبواب جهنم. أما الشاهد على الفرقة والاختلاف، فالإشارة النبوية إلى تعدد الفرق في حال عدم وجود جماعة المسلمين ولا إمامهم.

ـ حديث "الزموا هذه الطاعة والجماعة، فإنه حبل الله الذي أمر به، وأن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة ، وإن الله تعالى لم يخلق شيئا قط إلا جعل له منتهى، وإن هذا الدين قد تم، وإنه صائر إلى نقصان، وإن أمارة ذلك أن تقطع الأرحام، ويؤخذ المال بغير حقه، ويسفك الدماء، ويشتكي ذو القرابة قرابته، ولا يعود عليه بشيء، ويطوف السائل بين الجمعين لا يوضع في يده شيء، فبينما هم كذلك إذ خارت خوار البقر، يحسب كل الناس إنما خارت من قبلهم، فبينما الناس كذلك، إذ قذفت الأرض بأفلاذ كبدها من الذهب والفضة، لا ينفع بعد ذلك شيء من الذهب والفضة".  والحديث، وإن ورد في سياق لزوم الجماعة والتحذير من مفارقتها، إلا أن فيه إشارات لما سيكون عليه آخر الزمان من ظواهر تهد كلها أسس الاجتماع وقواعده، ومنها قطع الأرحام، وأخذ المال بالظلم والجور، وسفك الدماء، والخصام بين ذوي القرابة، والشح والبخل.

ـ حديث: "لن تفتن أمتي حتى يظهر فيهم التمايز، والتمايل، والمقامع "قلت: يا رسول الله ما التمايز؟ قال: " التمايز: عصبية يحدثها الناس بعدي في الإسلام" قلت: فما التمايل؟ قال:" تميل القبيلة على القبيلة فتستحل حرمتها " قلت: فما المقامع؟ قال: " سير الأمصار بعضها إلى بعض تختلف أعناقهم في الحرب " . قال ابن الأثير في شرح الحديث: "أي يتحزبون أحزابا ويتميز بعضهم من بعض ويقع التنازع".

2 ـ الخروج عن الجماعة بالاقتتال والغلو ومنازعة الإمام: مرت بنا في السابق أحاديث تنبه إلى هذه الفتن التي تكون ملازمة لآخر الزمان، لكنها وردت في معرض وصف حال الاجتماع. وسنورد في هذا المبحث، الأحاديث التي فصلت في هذه الظواهر الصريحة في بيان اضطراب وحدة الأمة واختلال قواعد الاجتماع وأركانه:

ـ حديث: "يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويلقى الشح، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج. قالوا: يا رسول الله أيم هو؟ قال: القتل، القتل". فالحديث واضح في أن من أمارات آخر الزمان، نقصان العمل وظهور الشح والفتن، وفشو القتل، وهو أمارات لاختلاف الأمة وأفول قواعد تعايشها، وظاهرة فشو القتل أكبر أمارة على ذلك، وهي دليل على عدم ركون الأمة إلى قواعد لتدبير خلافها، وبغي بعضها على بعض.

ـ حديث " إن بين يدي الساعة لأياما ينزل فيها الجهل، ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج والهرج القتل" وقد أضاف الحديث لسابقه،  سببا آخر لاختلال الاجتماع السابقة هو نزول الجهل وقلة العلم.

ـ حديث : "وسلم والذي نفسي بيده، لا تذهب الدنيا، حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه، ويقول: يا ليتني كنت مكان صاحب هذا القبر، وليس به الدين إلا البلاء" . والحديث ظاهر في فشو الفتن وتعددها، إلى درجة تمني الموت بسبب انعدام قواعد الاجتماع.

ـ حديث :" إنكم سترون بعدي أثرة، وأمورا تنكرونها. قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: أدوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم. وفي الحديث إشارة إلى ثلاث ظواهر تقوض وحدة الأمة واجتماعها، الأولى ظهور الأثرة، والأمور المنكرة المحدثة على الدين، وجور الحكام واختلال العلاقة التعاقدية بين الحاكم والمحكوم.

وردت أحاديث كثيرة ربط آخر الزمان بتغلب الأمم الأخرى على المسلمين وبيان الأسباب التي أدت إلى هذه الحال، وهي في مجموعها تقرر العلاقة السببية بين اختلال قواعد الاجتماع وانتقاضها وبين هوان الأمة وتغلب الأمم الأخرى عليها..
ـ حديث: "إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها. وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها. وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض. وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة، وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم. وإن ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، أو قال من بين أقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا.  والذي يستفاد من هذا الحديث الذي أشار فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى إجابة الله لدعوتين، وعدم إجابته لواحدة، أن الدعوة المتعلقة بعدم الإجابة حاصلة في آخر الزمان، وهي تسليط العدو على كافة المسلمين أو على معظمهم يستبيح ببيضتهم بحصول وصف من الأوصاف الواردة في الحديث.

ـ حديث "يخرج في آخر الزمان، قوم أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يقولون من قول خير البرية، يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية" . وقد روي في غير هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث وصف هؤلاء القوم الذين يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية إنما هم الخوارج الحرورية وغيرهم من الخوارج".

3 ـ تغلب الأمم الأخرى: وقد وردت أحاديث كثيرة ربط آخر الزمان بتغلب الأمم الأخرى على المسلمين وبيان الأسباب التي أدت إلى هذه الحال، وهي في مجموعها تقرر العلاقة السببية بين اختلال قواعد الاجتماع وانتقاضها وبين هوان الأمة وتغلب الأمم الأخرى عليها، ونذكر من هذه الأحاديث:

ـ حديث: "تقوم الساعة والروم أكثر الناس". فقال له عمرو: أبصر ما تقول. قال: أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال لئن قلت ذلك، إن فيهم لخصالا أربعا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك" . وفي هذا الحديث الذي فسره عمرو بن العاص، بيان لقاعدتين متقابلتين لهما تعلق بالاجتماع، الأولى، وتخص أمة الإسلام التي يخبر الحديث بتغلب الروم عليها بسبب ما ضيعت من قواعد الاجتماع وأركانه، والثانية تخص أمة الروم التي أخبر الحديث، أنها تكون أكثر الناس، وفسر عمرو بن عاص ذلك بخمس خصال تعتبر من قواعد الاجتماع وأسسه الكبرى، إذ تجمع بين قيم الرحمة، وقيم العدل التي عليهما مدار الاجتماع.

ـ  حديث: "لتتبعن سنة من كان قبلكم باعا بباع، وذراعا بذراع، وشبرا بشبر، حتى لو دخلوا في جحر ضب لدخلتم فيه. قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن إذا" . قال ابن حجر في شرح الحديث:" قال ابن بطال : أعلم صلى الله عليه وسلم أن أمته ستتبع المحدثات من الأمور والبدع والأهواء كما وقع للأمم قبلهم، وقد أنذر في أحاديث كثيرة بأن الآخر شر ، والساعة لا تقوم إلا على شرار الناس ، وأن الدين إنما يبقى قائما عند خاصة من الناس. قلت: وقد وقع معظم ما أنذر به صلى الله عليه وسلم وسيقع بقية ذلك".

ـ حديث ثوبان "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: من قلة نجن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل. ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت"، وفي الحديث إشارة إلى ملمحين متقابلين يتعلقان بحال الاجتماع لدى الأمم المتغلبة وأمة الإسلام: تداعي واجتماع أمم الكفر والضلالة لمقاتلة الأمة، وكسر شوكتها، ثم هو كثرة العدد وقلة المدد، بسبب قلة الشجاعة ودناءة القدر وشدة الضعف والوهن .

4 ـ بروز ظواهر تقضي على وحدة الأمة وأسس اجتماعها: فقد وردت أحاديث كثيرة تنبه إلى فشو ظواهر قيمية خطيرة تؤثر على الاجتماع، وتهدد أركانه، وتخل بقواعده، وهي تشي بالتحولات القيمية التي ستطرأ على الأمة في آخر الزمان، نوردها كالآتي:

ـ حديث زينب بنت جحش، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوما فزعا يقول: لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب. فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها. قالت زينب بنت جحش: فقلت: يا رسول الله، أفنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث". أي: الفسق والفجور والشرك والكفور. والحديث ظاهر تأكيد فشو الفواحش والمعاصي في آخر الزمان، وهي أسباب لفساد الاجتماع، وهلاك الأمة.

ـ حديث: "لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان، يكون بينهما مقتلة عظيمة، دعوتهما واحدة، وحتى يبعث دجالون كذابون، قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله، وحتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج وهو القتل، وحتى يكثر فيكم المال فيفيض، حتى يهم رب المال من يقبل صدقته، وحتى يعرضه عليه فيقول الذي يعرضه عليه لا أرب لي به، وحتى يتطاول الناس في البنيان، وحتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيقول يا ليتني مكانه، وحتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس يعني آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا، ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه، ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته، فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه، فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها"  وقد أخبر الصادق الأمين في هذا الحديث بعدد كبير من الظواهر التي ستظهر مع آخر الزمان مثل الهرج،  وقبض العلم، ووفرة المال وفيضه، واستغناء الفقراء عن الصدقة، وظواهر أخرى لم نفصل الحديث فيها، ومنها الكذب والاختلاق وادعاء النبوة.

4 ـ حديث "بادروا بالأعمال فتتا، كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا، ويمسي كافرا ، ويمسي مؤمنا، ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا " . فهذا الحديث يخبر بلين التدين، وسرعة الانتقال من الإيمان إلى الكفر، بسبب الفتن، وذهاب العلم، وشيوع الجهل.

ـ حديث "سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة: قال الرجل التافه في أمر العامة" . والحديث يشير إلى ما وقع أو ما ظهرت مباديه، أو ما سيقع بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مما يندرج ضمن أحداث آخر الزمان من التحولات العظيمة في الدين والقيم الأخلاقية بسبب الفتنة، إذ جمع الحديث بين ثلاث ظواهر (ظاهرة تكذيب الصادق وتصديق الكاذب، وظاهرة تخوين الأمين وإئتمان الخائن، وظاهرة إسناد أمر النظر في شؤون العامة للتافهين) وهي الظواهر التي تؤشر على اضطراب المعايير، واختلال منظومة القيم المجتمعية وفساد الاجتماع.

منهج تعامل البحث مع أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة، ينطلق من الإيمان بالأخبار الصحيحة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا ينشغل في تفسير هذه الأحاديث بقضية تنزيلها على الوقائع الحالية، وإنما ينضبط لمنهج السلف الذي كان يتعامل مع أحاديث الفتن بمنطق التحذير وتنبيه الناس من الأسباب والأحوال التي تهدد دينهم.
ـ حديث عوف بن مالك الأشجعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا عوف احفظ خلالا ستا بين يدي الساعة:  إحداهن موتي. قال: فوجمت عندها وجمة شديدة. فقال قل إحدى، ثم فتح بيت المقدس، ثم داء يظهر فيكم يستشهد الله به ذراريكم وأنفسكم ويزكي به أعمالكم، ثم تكون الأموال فيكم حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطا، وفتنة تكون بينكم لا يبقى بيت مسلم إلا دخلته، ثم تكون بينكم وبين بني الأصفر هدنة، فيغدرون بكم، فيسيرون إليكم في ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفا". والحديث أعاد التأكيد على شيوع ظواهر قيمية من قبيل وفرة المال إلى حد استغناء المحتاج عنه، وفتنة القتل. 

ـ حديث :"إن من أشراط الساعة، أن يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويفشو الزنا، ويشرب الخمر، ويذهب الرجال، ويبقى النساء حتى يكون لخمسين امرأة قيم واحد". وهذا الحديث يعزز ما تمنته الأحاديث السابقة من تعلق ظواهر كثيرة بآخر الزمان، منها رفع العلم وظهور الجهل، وفشو الزنا واستحلال الخمر وقلة الرجال وتزايد عدد النساء بالقياس إلى عدد الرجال.

ـ عن : "خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ". والحديث يشير إلى أربع ظواهر تمس منظومة القيم (التسارع للشهادة من غير أن تطلب من الشاهد)، و(الخيانة وذهاب الأمانة)، و(عدم الوفاء بالنذور) و(التوسع في المآكل والمشارب).

ـ حديث: "يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن الحلال أم من الحرام" .  والحديث ينبه إلى خطورة اضطراب المعايير لدى المسلمين واختلاطها حتى يصل بهم الأمر إلى التسوية بين أخذ المال بالحلال أو الحرام.

ـ حديث "لينتقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة، تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة"ز

قواعد في التعامل مع أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة:

وباعتبار أن الخلاف حول أحاديث آخر الزمان أخذ اتجهات متعددة، سواء في طرق التلقي لها، أو تفسيرها، أو تنزيلها على الوقائع، أو في مقاصد التبشير بها وإذاعتها، فإنه من الضرورة وضع مقدمات منهجية أساسية، للتعاطي مع هذه الأحاديث ومنع التوظيف الخاطئ أو المغرض لها:

المقدمة الأولى: أن منهج تعامل البحث مع أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة، ينطلق من الإيمان بالأخبار الصحيحة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا ينشغل في تفسير هذه الأحاديث بقضية تنزيلها على الوقائع الحالية، وإنما ينضبط لمنهج السلف الذي كان يتعامل مع أحاديث الفتن بمنطق التحذير وتنبيه الناس من الأسباب والأحوال التي تهدد دينهم. والتوقف عند القيم والأوصاف الطارئة التي يتوقع أن تهدد أركان الاجتماع. قال القرطبي رحمه الله في بيان بعض أصول هذا المنهج:" والذي ينبغي أن يقال به في هذا الباب، أن ما أخبر به النبي من الفتن والكوائن أن ذلك يكون، وتعيين الزمان في ذلك من سنة كذا يحتاج إلى طريق صحيح يقطع العذر".

المقدمة الثانية: أن التعامل مع أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة لا ينبغي أن يعنى بتقسيم العلامات والأمارات إلى صغرى ووسطى وكبرى، ولا بتعيين ما وقع منها سابقا، وما هو واقع اليوم، أو ما ظهرت بعض مبادئه، أو ما ينتظر وقوعه، ولا بتأويلها تأويلا قريبا أو بعيدا، ولا بمعرفة زمانها ولا مكانها، وإنما وجب الانصراف إلى بحث الأوصاف الطارئة التي ستظهر مع أشراط الساعة، وعلى رصد حالة الاجتماع، والأخطار التي تتهدد قواعده وأركانه في هذا الزمان وكيفية معالجتها.

المقدمة الثالثة: أن هذه الأحاديث وقعت موقع التنبيه والإشارة إلى الأخطار التي ستواجه الأمة، وأم قصدها توجيه عناية الأمة إلى ضرورة مواجهتها والتحدير من وقوعها، وبذل القيم الأساسية التي تحول دونها.

المقدمة الرابعة: أن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث من الغيبيات، مما صح النقل به عنه، لا يجوز الشك فيه، ويترك تأويله والتمحل في بحث تحققاته، ويتوجه القصد إلى القيم الجامعة التي ينبغي التمسك بها، والظواهر الخطيرة التي ينبغي توقيها، خاصة تلك التي تفرق الأمة، وتضعف شوكتها وتقضي على منظومتها القيمية وشبكتها الاجتماعية.