من
المظاهر الأكثر إثارة للحيرة في السلوك السياسي
العربي الرسمي؛ الانخراط الطوعي
لبعض الحكام العرب في
تبعية مفرطة للولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني،
بما يشمل الدفاع عن سياساتهما، والتطبيع معهما، بل والضغط على شعوبهم للتخلي عن
القضية الفلسطينية.
هذه
الحالة لا يمكن تفسيرها فقط من منظور سياسي أو استراتيجي؛ بل تستلزم قراءة نفسية
عميقة في دوافع هؤلاء الحكام، والميكانيزمات الدفاعية التي تحكم قراراتهم، وجذور
الهزيمة النفسية التي جعلتهم يرون الخضوع فضيلة، والتبعية أمانا.
وللقيام
بتحليل نفسي للدوافع وراء هذه الانهزامية والتبعية يمكننا النظر بالفحص والتدقيق
والتأمل على النحو التالي:
أولا:
التكوين النفسي للحاكم العربي المستبد
من المفارقات النفسية أن الإنسان المهزوم نفسيا أحيانا ينجذب إلى مصدر هزيمته. وهذا ما يعرف بـ"متلازمة ستوكهولم السياسية"، أو "عُقدة المنقذ"
الحاكم
العربي، في معظم النماذج السلطوية، ينشأ في بيئة سياسية مغلقة، غالبا ما يصل إلى
الحكم عبر وسائل غير ديمقراطية، ويعيش حالة دائمة من التهديد الداخلي (انقلابات،
ثورات، احتجاجات). هذا النمط من التهديد المستمر يؤدي إلى عدة نتائج نفسية:
- عقدة
الأمان الوجودي: يعيش الحاكم في قلق دائم على كرسيه، ويبحث عن مظلة خارجية توفر له
الشرعية والدعم الأمني.
- الشخصية
النرجسية: يشعر بتضخم الذات، ويرى في نفسه "المخلّص" أو "الوحيد
القادر على الحكم"، مما يجعله يرى المعارضة أو المقاومة تهديدا شخصيا.
- الإفراط
في الميكانيزمات الدفاعية: مثل الإنكار والإسقاط، فيرفض رؤية الحقائق، ويلقي
باللوم على الشعوب أو الخصوم.
ثانيا:
سيكولوجية التعلق بالعدو القوي
من
المفارقات النفسية أن الإنسان المهزوم نفسيا أحيانا ينجذب إلى مصدر هزيمته. وهذا
ما يعرف بـ"متلازمة ستوكهولم السياسية"، أو "عُقدة المنقذ"،
حيث:
- الخوف
من القوة الساحقة: يرى الحاكم أن أمريكا وإسرائيل هما "القوتان القادرتان على
البقاء"، فيعتبر أن نجاته ترتبط بولائه لهما.
- الارتباط
بمصدر التهديد: يحدث لدى بعض الحكام ما يشبه "التعلّق المَرضي" بمصدر
التهديد، ظنا أن التقرّب منه يضمن الحماية.
- عُقدة
الدونية الحضارية: يعيش الحاكم في ظل استلاب فكري يراه أن النموذج الغربي هو
الأعلى، وأن التقدم لا يمكن إلا عبر بوابته.
ثالثا:
دوافع الخضوع وتقديم الولاء
الذي
يجعلهم يفعلون ذلك رغم معرفتهم بما يفعل العدو جملة من الأسباب تتراوح بين النفسية
والسياسية والوجودية تمضي نحو:
- البحث
عن ضمان الحكم: يرى أن واشنطن وتل أبيب هما الضامنتان لبقائه.
- الخوف
من المصير الليبي أو العراقي: يخشى أن يُسحق كما سُحق غيره، فيعتبر الطاعة طريقا
للنجاة.
- الرغبة
في الرضا الغربي: يخال أن تطبيعه يعطيه صورة "الحاكم المتحضر" في نظر
الغرب، مما يسهل قبوله في المنظومة الدولية.
- هروب من
المسؤولية التاريخية: إسقاط القضية الفلسطينية يخفف عنه عبء الدفاع عن الأمة.
رابعا: ما
الذي يفكرون فيه بعد الخضوع؟.. الجواب: تتشكل لديهم ثلاثة أنماط من التفكير:
- التبرير
النفسي: يبدأون في اختلاق سرديات لتبرير مواقفهم (مثل: "الواقعية
السياسية"، أو "لم تعد فلسطين أولوية").
- التخدير
الأخلاقي: يبررون دعم الاحتلال بأنه "لخدمة التنمية" أو "لمصلحة
الدولة".
- التعود
على الانبطاح: مع الزمن، يصبح الخضوع سلوكا معتادا، ويتحول الحاكم إلى أداة بيد
قوى الهيمنة دون مقاومة داخلية.
خامسا:
لماذا لا يشعرون أنهم مجرمون؟.. الجواب يكمن في "التحريف الإدراكي"
و"الإنكار الأخلاقي"، وذلك عبر عدة مستويات:
- التعويم
القيمي: لم تعد القيم معيارا، بل مصلحة النظام.
- تسويغ
الجريمة: يرون أن دعم الكيان الصهيوني هو "خدمة للسلام"، أو "حماية
للمصالح العليا".
- الانفصال
عن الضمير الجمعي: يتعاملون مع شعوبهم كأعداء محتملين، لا كجزء من ذاتهم، مما يسهل
ارتكاب الجرائم دون شعور بالذنب.
سادسا: هل
يعلمون أن التبعية ستقودهم للهلاك؟.. الجواب: أغلبهم يعلم، لكن ميكانيزمات الدفاع
النفسي تمنعه من الاعتراف، مثل:
ما نراه من مواقف الحكام العرب ليس فقط خيانة سياسية، بل هو تعبير عن هزيمة نفسية مركبة، وتشوه في البنية النفسية للزعيم، وخلل في علاقته بذاته وشعبه
- الإنكار
المعرفي: يرفض تصديق أن أمريكا ستتخلى عنه، رغم كل الشواهد.
- الرهان
على الزمن القصير: يتعامل مع الحكم كأنه مشروع يومي، لا يهمه المستقبل البعيد.
- غياب
الإيمان العميق: من فقد الإيمان بقضيته وبأمته، لا يستشرف العاقبة.
وختاما:
إن ما نراه من مواقف الحكام العرب ليس فقط خيانة سياسية، بل هو تعبير عن هزيمة
نفسية مركبة، وتشوه في البنية النفسية للزعيم، وخلل في علاقته بذاته وشعبه.
والتغيير
الحقيقي لن يأتي فقط عبر تغيير الأشخاص، بل ببناء وعي جديد يقود إلى أنماط قيادة
تعيش بثقة في الذات، وإيمان بالأمة، ورفض للتبعية والاحتلال.
إن
الانتقال من الهزيمة النفسية إلى التحرر يلزمه التخلص من هؤلاء الحكام، ومن النخبة
السياسية التي لا تؤمن بقدرات شعوبنا على النهضة والتحرر، والتي لا تعتز بتاريخها،
ولا تستطيع أن ترى القيم العظيمة التي يحتويها ديننا وثقافتنا العربية والإسلامية.
والخلاصة،
أن الإيمان بالله والثقة بالشعب والعمل الدائب المخلص المتجرد من الأهواء والمطامع
الشخصية؛ هي أهم صفات الزعامة الحقيقية التي يمكن أن تقود مسيرة الأمة في طريقها
للتحرر والنهضة.