أفكَار

حين يقود السياسي بالدم ويصمت الفكر باسم الحكمة.. سؤال النهوض من جديد

يُعتبر هشام جعيط من تونس، وصادق جلال العظم والطيب تيزيني من سوريا، أبرز وجوه هذا التيار النقدي، حيث ينقلون النقاش من حدود المفاهيم إلى مساءلة الشروط العميقة التي تمنع إنتاج نموذج حداثي أصيل.
في قطاعٍ صغير محاصر، يُختبر العالم كل يوم أمام مرآة نفسه. غزة، التي لا تزيد مساحتها عن مدينة أوروبية صغيرة، تواجه اليوم أعتى ما أنتجته الترسانة العسكرية من أسلحة "ذكية" و"دقيقة" و"نظيفة"، لكنها لا تصيب إلا الأطفال والنساء والمستشفيات والمدارس. أمام هذا المشهد الإنساني الكارثي، لا يملك قادة العالم المتحضر حتى رفاهية الصمت؛ بل إن كثيرًا منهم متورط في صياغة معادلة دولية يعتبر فيها استئصال فكرة المقاومة والتحرر الفلسطيني شرطًا مسبقًا لاستقرار الشرق الأوسط ورفاه العالم.

هذه المأساة، التي فاقت في حدتها ووحشيتها كل منطق أخلاقي أو قانوني، ليست مجرد لحظة حرب، بل لحظة سقوط لكل القيم السياسية التي طالما روّج لها الغرب: حقوق الإنسان، القانون الدولي، إنسانية الإنسان. إن سكوت العواصم المؤثرة، وتواطؤها الصريح أو الضمني، يكشف حجم الانحدار الذي وصل إليه الضمير العالمي، ويضعنا نحن، في الضفة الأخرى من التاريخ، أمام سؤال أكثر جذرية: هل نملك بعدُ أدوات الفهم والفعل؟

إن ما يحدث في غزة ليس مجرد مأساة إنسانية، بل مأساة فكرية أيضًا. إذ يكشف عن هشاشة الفكرة الليبرالية التي تُدار بها العلاقات الدولية، وعن الزيف الأخلاقي الذي يحكم توازنات القوى. كما يعيد إحياء سؤال العلاقة بين السلطة والمعرفة، بين القوة والحقيقة، بين المثقف والسياسي، في أشد أشكالها توترًا.

إن سكوت العواصم المؤثرة، وتواطؤها الصريح أو الضمني، يكشف حجم الانحدار الذي وصل إليه الضمير العالمي، ويضعنا نحن، في الضفة الأخرى من التاريخ، أمام سؤال أكثر جذرية: هل نملك بعدُ أدوات الفهم والفعل؟
من هنا يصبح ضروريا ـ وربما عاجلاً ـ أن نعيد النظر في هذه العلاقة المتشابكة بين الفكر والسلطة، وأن نفهم لماذا يُقصى المثقف، ويُستدعى فقط حين يُطلب منه التبرير والتجميل، ولماذا يبدو السياسي في عالمنا أكثر طغيانًا من أي وقت مضى، ليس لأنه يملك القوة فقط، بل لأنه يسيطر على أدوات إنتاج المعنى.

إن غزة اليوم ليست فقط ساحة مواجهة بين جيش محتل وشعب محاصر، بل ساحة اختبار للفكر العربي والإنساني برمته: هل نكتفي بالتحليل من الخارج؟ أم نعيد بناء وعينا من الداخل، بعيدًا عن هزائم السياسة واختلالات القوة، وقريبًا من الحقيقة المجردة للإنسان وهو يُباد أمام مرأى من البشرية كلها؟

بهذا الوعي المؤلم، تنفتح أمامنا من جديد إشكالية قديمة قدم الفكر نفسه: من يملك الكلمة الأولى؟ المثقف أم السياسي؟ من يقود الآخر: من ينتج الرأي أم من يفرض القرار؟

سؤال تتجدد ضرورته في عالمٍ ينهار أخلاقيًا، ويستقوي بالسلاح على المعنى.

علاقة مرتبكة

تبدو العلاقة بين المثقف والسلطة من أكثر العلاقات تعقيدًا وتشابكًا في التاريخ السياسي والفكري للإنسان. فمن جهة، يُفترض أن يكون المثقف هو من يسبق الفعل السياسي، بوصفه منتِجًا للمعنى، ومُوجِّهًا للرؤية، وناقلًا للمعلومة التي على أساسها تُبنى القرارات. ومن جهة أخرى، نجد أن السياسي كثيرًا ما يتحرك خارج النص أو ضده، ليفرض سلطته على الواقع، ثم يطلب من المثقف أن يُسوّغ فعله، أو يمنحه الغطاء الرمزي والتأويلي.

هذه الإشكالية، وإن كانت قديمة قدم الدولة والسلطة، إلا أنها اليوم تبدو أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، نظرًا للتحولات العالمية المتسارعة، ليس فقط في العالم العربي أو الإسلامي، بل في البنية الدولية ذاتها التي كانت إلى وقت قريب تُروّج لنهايات كبرى مثل "نهاية التاريخ" و"موت الأيديولوجيا".

لقد رأينا في تسعينيات القرن الماضي بزوغ أطروحات فكرية احتفالية بانتصار الغرب، ظنناها لحظة انتشاء عابرة، لكنها سرعان ما اصطدمت بحقائق الحرب والدمار والتشظي: من أفغانستان إلى العراق، ومن غزة إلى الإجهاض المنهجي لجهود التحول الديمقراطي في ما سُمي بثورات الربيع العربي.

في هذا السياق، يصبح من الضروري إعادة النظر في العلاقة بين المثقف والسياسي: هل على المثقف أن يتماهى مع السلطة، يفسر قراراتها أو يلحق بها؟ أم أن دوره الحقيقي يبدأ حين يبتعد عن مركز القرار، ويشتبك نقديًا مع ما يُفرض من الأعلى؟ هل المثقف مستشار بلباس معرفي؟ أم ضمير جماعي ينهض حين تصمت السياسة؟

أسئلة من هذا النوع تدفعنا للبحث في التحولات العميقة التي شهدها الفكر العربي المعاصر، وتحديدًا مع ولادة ما يمكن تسميته بـ"التيار النقدي الجذري"، الذي لم يعد يقف عند جدل العلمانية والدين، بل بات يطرق أبوابًا أكثر حساسية: ما الذي يمنع إنتاج حداثة عربية أصيلة؟ ولماذا تعجز مجتمعاتنا عن التحرر من الاستبداد، لا السياسي فحسب، بل المعرفي والرمزي؟

سؤال النهضة.. مأزق العقل العربي

يبقى سؤال النهضة العربية مفتوحًا في ظل المأزق العميق الذي يعاني منه العقل العربي المعاصر، ذلك السؤال الذي يتشابك مع إشكاليات تاريخية وفكرية واجتماعية متجذرة. حاول الفكر العربي الحديث عبر محطات متنوعة فك شفرات هذا السؤال، بدءًا من علاقة الدين بالدولة، مرورًا بمناقشة مفاهيم الحداثة والعلمانية، وانتهاءً بإعادة النظر في الذات العربية وتاريخها السياسي والثقافي.

إن ما يحدث في غزة ليس مجرد مأساة إنسانية، بل مأساة فكرية أيضًا. إذ يكشف عن هشاشة الفكرة الليبرالية التي تُدار بها العلاقات الدولية، وعن الزيف الأخلاقي الذي يحكم توازنات القوى. كما يعيد إحياء سؤال العلاقة بين السلطة والمعرفة، بين القوة والحقيقة، بين المثقف والسياسي، في أشد أشكالها توترًا.
لم يكن الصراع الفكري العربي مجرد تنازع بين استيراد الحداثة أو الحفاظ على الخصوصية الثقافية، بل كان صراعًا داخليًا مع تراكمات معرفية وأيديولوجية عبر قرون. ضمن هذا الإطار برزت أطروحات مثل عزمي بشارة، عبد الوهاب المسيري، ورضوان السيد، الذين تناولوا العلمانية في سياقها التاريخي والسياسي، ورأوا فيها ضرورة للدولة الحديثة أو إشكالية حضارية تتطلب توطينًا محليًا.

لكن هذه المحطات التأسيسية مهّدت لظهور مرحلة جديدة أعمق وأكثر جذرية، تمثلها ولادة ما أسميه بـ "التيار النقدي الجذري" في الفكر العربي. هذا التيار لا يكتفي بمناقشة العلمانية كفصل تقني بين الدين والدولة، بل يتجاوزها إلى تفكيك بنية الاستبداد المعرفي والسياسي التي تعيق تحقيق النهضة، ويرى أن تحرير العقل العربي من قيوده اللاهوتية والتاريخية والثقافية هو شرط أساسي للتقدم.

من جعيط إلى تيزيني.. ثلاثي النقد العميق

يُعتبر هشام جعيط من تونس، وصادق جلال العظم والطيب تيزيني من سوريا، أبرز وجوه هذا التيار النقدي، حيث ينقلون النقاش من حدود المفاهيم إلى مساءلة الشروط العميقة التي تمنع إنتاج نموذج حداثي أصيل. فبدلاً من السؤال التقليدي "كيف نطبّق الحداثة في بيئة دينية؟"، ينتقلون إلى السؤال الأعمق: "ما الذي يمنع العقل العربي من إنتاج حداثته الخاصة؟"

في تونس، قدم هشام جعيط رؤية نقدية متحررة من التقديس التاريخي، حيث تفكك الطبقات السردية للتراث الإسلامي لتقديم قراءة عقلانية تزيل أسطورة السياسة والدين. بالنسبة له، النهضة تبدأ بتحرر العقل من سلطة الماضي، وليس من الدين كقيمة روحية، والعلمنة ليست هدفًا بل نتيجة عقلنة التاريخ.

في سوريا، برز صادق جلال العظم كناقد صارم للسلطة اللاهوتية التي تقيد التفكير الحر وتدعم الاستبداد السياسي. لم يرَ في العلمانية هدفًا مستقلًا، بل نتاجًا لعملية نقد داخلي للعقل الديني، مؤكدًا أن العلمنة تبدأ من داخل الثقافة نفسها وليس عبر نسخ نماذج غربية.

أما الطيب تيزيني، فقدم مشروعًا فلسفيًا شاملاً لإعادة بناء الوعي التاريخي العربي، مؤكّدًا أن النهضة ليست استيرادًا بل إعادة بناء جذري للذات. نقده للاستبداد يمتد من التراث إلى الحاضر، ويدعو إلى تجاوز الثنائية بين التراث والحداثة عبر بناء جدلية جديدة تؤسس لوعي تاريخي متطور.

ما بعد العلمانية.. نحو مساءلة الوعي

بينما وضع المسيري وبشارة والسيد العلمانية ضمن إطار ضرورة ديمقراطية أو إعادة تعريف من داخل المرجعية الإسلامية، يذهب جعيط والعظم وتيزيني أبعد من ذلك، سائلين عن سبب عجز العقل العربي عن إنتاج حداثته، وموضحين أن الأزمة ليست في النماذج المستوردة بل في بنية العقل والوعي ذاته.

هؤلاء المفكرون لا يقتصر نقدهم على المفاهيم بل يتعمقون في مساءلة بنية الفكر العربي، مشيرين إلى أزمة وعي تاريخي، عجز معرفي، واستبداد فكري يعوقان نهضة حقيقية. هذا التحول في النظر إلى العقل العربي يمثل منعطفًا معرفيًا حاسمًا في مسار النهضة الفكرية العربية.

وهكذا ننتقل من مناقشات بشارة والمسيري والسيد حول العلمانية كإشكالية حضارية، إلى توجه جديد يعيد تعريف السؤال حول النهضة عبر نقد جذري للبنية الفكرية والاجتماعية. في دراستنا القادمة، سنركز على هذا الثالوث الفكري (جعيط، العظم، تيزيني) لتحليل رؤاهم حول الدين، العلمانية، والنهضة، واستكشاف كيف شكّلوا نقطة تحول مهمة في الفكر العربي الحديث.

لقد فشل المشروع السياسي العربي لا فقط في الوفاء بوعوده الكبرى ـ الدولة، الاستقلال، الرفاه، السيادة ـ بل فشل أيضًا في إنتاج نموذج حديث يعبر بالعرب من لحظة القبيلة والحرب إلى لحظة الدولة والمواطنة. وفي قلب هذا الانهيار، لم يكن المثقف شاهدًا محايدًا، بل كان، في أرقى تجلياته، ضميرًا قلقًا يرفض الصمت، ويسائل، ويفكك، ويكتب وهو يرى الدم يسيل.
لقد وُلد هذا التيار النقدي الجذري، في عمقه الفلسفي والإنساني، لا داخل برج عاجي من التأملات النظرية، بل على تخوم واقع سياسي مأزوم. لم ينشأ من ترف الفكر، بل من وجع التاريخ. إنه ابن الهزيمة، لا بمعناها القدري، بل بصفتها سؤالا معلّقا على عجز النخبة السياسية والفكرية عن بناء مشروع وطني حديث، يقوم على الحرية والمؤسسات والمعنى.

لقد فشل المشروع السياسي العربي لا فقط في الوفاء بوعوده الكبرى ـ الدولة، الاستقلال، الرفاه، السيادة ـ بل فشل أيضًا في إنتاج نموذج حديث يعبر بالعرب من لحظة القبيلة والحرب إلى لحظة الدولة والمواطنة. وفي قلب هذا الانهيار، لم يكن المثقف شاهدًا محايدًا، بل كان، في أرقى تجلياته، ضميرًا قلقًا يرفض الصمت، ويسائل، ويفكك، ويكتب وهو يرى الدم يسيل.

هكذا نشأ هذا التيار: نقدًا للاستبداد، لا فقط كسلطة سياسية، بل كبنية وعي ومعنى. تيارٌ يشتبك مع التراث، لا لنبذه، بل لفهمه، ويعيد مساءلة الدين، لا لعداوته، بل لإنقاذه من التوظيف السياسي. تيارٌ يكتب من أرض الخراب، عن أمل يُعاد بناؤه بالعقل، لا بالخطابة.

فحين يقود السياسي بالدم، ويصمت الفكر باسم الحكمة، يبقى سؤال النهوض العربي مطروحًا من جديد: لا بوصفه مشروعًا فكريًا فقط، بل كشرط إنساني لا بد منه لاستعادة الكرامة والمعنى.