أفكَار

من سؤال النهضة إلى أزمة الدولة.. العقل النقدي وتحدي الترجمة السياسية

جاءت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 لحظة زلزالية، لا في إيران وحدها، بل في العالمين العربي والإسلامي، بل والعالم بأسره.. (الأناضول)
انطلقت هذه السلسلة من المراجعات الفكرية الحاسمة التي مثّلها مفكرون عرب من مختلف أصقاع عالمنا العربي لتضعنا منذ البداية أمام سؤال مركزي: كيف نفكر؟ وبأي أدوات نعيد النظر في شروط نهضتنا؟ وهي مراجعات شقّت الطريق لطرح أوسع وأشمل حول مفهوم العلمانية، لا كمجرد فصل بين الدين والدولة، بل كفضاء للاشتباك بين الهوية والكونية، بين الموروث والمعاصرة، بين الدولة والمجتمع، من خلال أطروحات عزمي بشارة، وعبد الوهاب المسيري، ورضوان السيد.

لكن هذه القراءة ما كانت لتكتمل لولا الغوص في التيار الفكري الأعمق، الذي لا يكتفي بنقد المفاهيم بل يذهب إلى تفكيك بنية الوعي العربي ذاته، كما رأينا عند هشام جعيّط، وصادق جلال العظم، والطيب تيزيني. هؤلاء المفكرون لم يقدموا أطروحات نظرية في معزل عن الواقع، بل دشّنوا نقلة معرفية حاسمة من سؤال المفهوم إلى سؤال الشروط البنيوية التي تعيق إنتاجه في السياق العربي.

لماذا بدت الثورة الإيرانية أكثر أهمية وتأثيرًا من العودة إلى الإرث الإخواني، على الرغم من أن دعوة الإخوان المسلمين وتأسيس الجماعة تعود إلى مطلع القرن العشرين، وكان أثرها في الساحة العربية والإسلامية أوسع على مستوى الحركة والتنظيم؟
كل هذه الأطروحات، مجتمعة، تمثل الخميرة الفكرية الأساسية للعقل النقدي العربي المعاصر، وهي التي ستُترجَم لاحقًا ـ بشكل متفاوت ومتضارب ـ إلى سلوكيات سياسية وفكرية ستتجلّى في التيارات الكبرى التي عرفها القرن العشرون: من القومية الناصرية في مصر، إلى البعثية في سورية والعراق، والعلمانية المتأوربة في الشمال الإفريقي، حيث تم اختزال التحديث في علمنة شكلية غيّبت سؤال الحرية.

وفي المقابل، حافظت الأنظمة الملكية على خطاب ديني مؤسسي لا يصطدم بالموروث العقدي، لكنه يُستخدم لتبرير استمرارية نظم سياسية سلطوية، منفتحة على الغرب اقتصاديًا وأمنيًا، لكنها منغلقة داخليًا على أي إصلاح جوهري.

هذا التباين السياسي لم يكن ممكنًا بدون البنية الفكرية التي مهدت له، أو تلك التي عجزت عن ترجمته إلى مشروع تحرري شامل. من هنا كانت العودة إلى هذه التيارات الفكرية ضرورية، ليس فقط لإعادة الاعتبار للفكر النقدي، بل لفهم كيف يُنتج الاستبداد عبر الفكر، لا فقط عبر العنف، وكيف يمكن ـ في المقابل ـ أن يكون الفكر مدخلًا حقيقيًا إلى تحرير الوعي، وتحرير الإنسان.

من هنا، فإن هذا العمل، في عمقه، لا يدّعي استعراض الأفكار، بل يسعى إلى فهم أصل المأزق الذي وُضِع فيه العقل العربي: مأزق التبعية، مأزق الازدواج، مأزق القطيعة المعرفية. وهو بذلك ليس نهاية القول، بل دعوة إلى مواصلة الحفر في الطبقات الصلبة من الوعي، تلك التي ما تزال تعيد إنتاج الاستبداد بأشكال شتى: دينية، قومية، أو علمانية.

ويبقى السؤال الكبير مفتوحًا: هل يمكن للعقل العربي أن يستأنف مشروعه التحرري من داخل ذاته؟ وهل تكفي اليقظة الفكرية لإعادة بناء الذات، أم أننا بحاجة إلى ثورة ثقافية موازية تتجاوز نخبة المفكرين إلى الفضاء العمومي حيث يُصاغ المعنى ويُختبر المصير؟

في مواجهة الانكسار، لا تزال دروب النهضة مفتوحة.. لكن الثمن هو النقد أولًا، والصدق مع الذات دائمًا.

من النقد إلى الفعل.. صعود الإسلام السياسي في زمن الانكسارات

في أعقاب المراجعات الفكرية الكبرى التي دشّنها التيار النقدي الجذري في العالم العربي، على يد مفكرين من أمثال محمد عابد الجابري، جورج طرابيشي، هشام جعيط، عبد الوهاب المسيري، برهان غليون، صادق جلال العظم، والطيب تيزيني، بدا المشهد الثقافي والفكري في أواخر سبعينيات القرن الماضي أمام مفترق طرق حاسم.

فقد تمّ تشريح التراث وتفكيك علاقة الدين بالسلطة، وجرى نقد الحداثة المستوردة والمعلّبة، لكن الجواب العملي على سؤال النهضة ظلّ معلقًا، تتقاذفه تيارات فكرية وسياسية عاجزة عن التغيير، أو منكفئة في دوائر النخبة.

لقد احتضنت باريس، التي كانت مركزًا للفكر التنويري والعقلانية الغربية، آخر مراحل تشكّل المشروع الخميني، حيث التقت الإرادة الثورية مع فكر سياسي ـ ديني يحمل تصورًا كاملاً للدولة والقيادة والشرعية. لم تكن تلك مجرد مصادفة جغرافية، بل مشهدًا رمزيًا معبّرًا عن طبيعة اللحظة: عودة منفى إلى وطن، لا على ظهور الدبابات كما حدث في العراق، بل على أكتاف الجماهير الهادرة.
في هذا السياق المشحون، جاءت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 لحظة زلزالية، لا في إيران وحدها، بل في العالمين العربي والإسلامي، بل والعالم بأسره. لم تكن تلك الثورة فقط إسقاطًا لأقوى نظام "نيوليبرالي ـ استبدادي" في المنطقة، بل كانت إعلانًا عن ميلاد مرحلة جديدة، استطاع فيها الإسلام السياسي، لأول مرة منذ انهيار الخلافة، أن يقدّم نفسه كقوة فاعلة في الواقع، لا مجرد خطاب احتجاجي أو حركة دعوية.

ومع سقوط نظام الشاه ـ الحليف المركزي للغرب وإسرائيل ـ شهدت المنطقة ما يمكن تسميته بـ"انفجار المعنى"، إذ انكشفت هشاشة المشاريع الحداثية العربية، سواء الليبرالية التي اصطدمت بالاستعمار والتبعية، أو اليسارية التي انهارت مع النكسة، أو القومية التي تحوّلت إلى أنظمة شمولية مستبدة.

لقد كان نجاح الثورة الإسلامية في إيران في نهاية السبعينيات، وسقوط نظام الشاه، لحظة فاصلة في مسار هذا التشكل؛ إذ مثّلت بداية لما يُشبه الاستعادة الرمزية للمبادرة من طرف الأمة، لا فقط كجغرافيا، بل ككيان حضاري يمتلك حقه في نقد ذاته وفي إعادة تشكيل مصيره خارج نماذج الهيمنة الغربية.

بذلك، لم تكن الصحوة الإسلامية مجرد عودة إلى الدين، بل كانت استعادة للهوية في مواجهة الاحتلال، والاستبداد، والانهيار القيمي.

التوجه التالي في البحث.. الثورة الإيرانية

وانطلاقًا من هذا السياق، يفتح هذا البحث الطريق الآن نحو إلقاء الضوء على الثورة الإيرانية، من حيث منشئها وأسبابها (البعيدة والقريبة)، أسسها الفكرية والدينية (علي شريعتي، الخميني، الحوزة الشيعية)، وترجمتها السياسية والدستورية (ولاية الفقيه، الجمهورية الإسلامية، العلاقة مع الغرب والمعارضة الداخلية).

إن الثورة الإيرانية ليست فقط حدثًا سياسيًا، بل مختبرًا فريدًا لفهم العلاقة بين الفكر الديني والحكم، بين الهوية والسيادة، بين الإسلام والحداثة السياسية.

من عاصمة الأنوار إلى عرش الثورة.. حين تصير الفكرة فعلاً

قبل أن نشرع في استعراض جذور الثورة الإيرانية وأسسها الفكرية والدينية والسياسية، لا بد من التوقف عند ملاحظة مفصلية تتعلق بمنطق التاريخ ومسار التحولات الكبرى.

ففي السياسة، لا مكان للصدف المطمئنة، ولا يمكن الوثوق بالمصادفة كمحرّك للتاريخ. فالتاريخ، كما علّمنا كبار المفكرين من هيغل إلى ابن خلدون، تحركه الإرادة والفكر والفعل الجماعي، لا الملاحظة العابرة أو المصادفة الطارئة.

ولذلك فإن بروز الفكر الديني الثوري الشيعي بقيادة الإمام الخميني لم يكن نتاج دهاليز مغلقة، ولا انعكاسًا لتخطيط معتم في أقبية ضيقة، بل كان نتيجة تفاعل تاريخي مفتوح، تشكّل في وضح النهار، وفي قلب مدينة الأنوار باريس، لا في عزلة قم أو نجف ما قبل الثورة.

لقد احتضنت باريس، التي كانت مركزًا للفكر التنويري والعقلانية الغربية، آخر مراحل تشكّل المشروع الخميني، حيث التقت الإرادة الثورية مع فكر سياسي ـ ديني يحمل تصورًا كاملاً للدولة والقيادة والشرعية. لم تكن تلك مجرد مصادفة جغرافية، بل مشهدًا رمزيًا معبّرًا عن طبيعة اللحظة: عودة منفى إلى وطن، لا على ظهور الدبابات كما حدث في العراق، بل على أكتاف الجماهير الهادرة.

وما فعله الخميني آنذاك لم يكن مجرد قيادة لثورة، بل تدشينا لحقبة سياسية تعيد ترتيب العلاقة بين الدين والدولة، وتضع سؤال "الشرعية السياسية الدينية" في قلب الواقع المعاصر، حتى لكأنّها ـ بطريقة أو بأخرى ـ تستعيد سؤال السقيفة، لكن هذه المرة لا كإرث تاريخي مجرد، بل كإشكال معيش ومؤسس لمسار جديد.

ويُطرح هنا سؤال لا بد من مواجهته بصراحة: هل كان الغرب غافلًا عن هذا المشروع؟ هل مرت الثورة الإيرانية، بطابعها الديني المذهبي، من دون أن تدق نواقيس الإنذار في العواصم الغربية، ودوائر القرار، ومراكز الفكر؟ أم أن القراءة الغربية للمشهد الإسلامي كانت ـ وربما لا تزال ـ تفتقر إلى إدراك الفوارق الدقيقة بين الطبيعة الرمزية والسياسية للإسلام الشيعي، والواقع المتشظي والمرن للإسلام السني؟

إن السؤال حول ما إذا كانت الثورة الإيرانية تعبّر فقط عن مطلب أقلية في العالم الإسلامي، أم عن تحول في بنية الوعي السياسي الإسلامي، سؤال مفتوح على تحليلات عميقة، ويقودنا مباشرة إلى جوهر المحور التالي من هذا المشروع البحثي.

يبقى أن نطرح السؤال الحاسم: لماذا بدت الثورة الإيرانية أكثر أهمية وتأثيرًا من العودة إلى الإرث الإخواني، على الرغم من أن دعوة الإخوان المسلمين وتأسيس الجماعة تعود إلى مطلع القرن العشرين، وكان أثرها في الساحة العربية والإسلامية أوسع على مستوى الحركة والتنظيم؟

الجواب يكمن في أن الثورة الإيرانية لم تكن مجرّد صحوة أو حركة احتجاجية، بل كانت نجاحًا ملموسًا للإسلام السياسي الشيعي في الوصول إلى رأس السلطة، والتأثير المباشر ليس فقط في السياسات المحلية والإقليمية، بل في الدخول إلى المنتدى الدولي من بوابة السياسة والعلاقات بين الدول.

ذلك المدخل ـ بكل ما حمله من دلالات رمزية واستراتيجية ـ لم يقتصر على تغيير المشهد الإيراني، بل ساهم تدريجيًا في إعادة صياغة خارطة المنطقة وتوازناتها، وأعاد تعريف العلاقة بين الإسلام والدولة والسيادة. إنها لحظة فاصلة ستظل تداعياتها السياسية والفكرية حاضرة، وسنرى ملامحها أكثر وضوحًا فيما يلي من هذه السلسلة.