زراعة الأرض من أبهى صور التصاق الإنسان
بالحياة، وهَجْرها من أنصع الأدلّة على حبّ الراحة وكراهية العمل، ولأنّ الأرض هي
الأمّ والنبع النقيّ، وهي التي تُنتج الخير لمليارات البشر، الذين خلقوا منها، وهي
مسكنهم بعد الموت.
ومفهوم الخراب تطوّر، أو تدهور، تزامنا مع
تطوّر أساليب وأدوات ومعاول التخريب على الكوكب وكأنّنا، في بعض الدول، في سباق مع
الزمن لتخريب أكثر وتدمير أشدّ!
ومَن يُتابع الشأن العراقيّ بدقّة يَلحظ
أنّ الأمور مختلطة وضبابيّة، ولا يمكن لأذكى المتابعين أن يفهم ما يُراد للعراق من
غالبيّة السياسات التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة والإعلاميّة، وكأنّنا أمام
مخطّط مرسوم خلف الكواليس، ويُنفّذ فقرة فقرة وخطوة خطوة لتهشيم الوطن والناس!
ويعاني
العراق اليوم من حالة التخدير أو
القبول بالهدوء المرعب السابق للعاصفة القاصمة لظهر الدولة، ومنذ العام 2017
وإعلان رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي الانتصار على "داعش" بدأت
تتنامى في العراق قوى اللا دولة المتحكّمة والضاغطة على قوى الدولة الرسميّة!
حصر السلاح بيد الدولة قضيّة أصيلة في بناء منظومات الدولة ومؤسّساتها الأمنيّة، ويُفترض بالحكومة ضرب كلّ مَن يحاول التلاعب بالأمن، ولكن كيف يُضْرَب الشريك الأصيل في إدارة الدولة؟
وهذه القوى غير الرسميّة يصعب الاقتراب من
سورها لأنّها تتحدّث بمنطق دماء الشهداء، وحماية أعراض الناس وممتلكاتهم من سطوة "داعش"،
وبالتالي من يُشير إليها يُطعن في وطنيّته، وهنا تقع النقطة القاصمة للظهر الوطن
والشرفاء!
والتطوّر الأكبر حدث نهاية الأسبوع
الماضي، وتمثّل في المواجهات المسلّحة بين عناصر وزارة الداخليّة وحزب الله
العراقيّ في مديرية زراعة بغداد/ الكرخ، لاعتراضه على تغيير مدير الدائرة التابع
له، وأسفرت المواجهات عن سقوط قتلى وجرحى! واضطرّت الحكومة لاعتقال بعض المنفّذين من
الحزب لأنّها، إن لم تفعل ذلك فستكون في موقف محرج!
وبعد ساعات كتب أبو علي العسكري، المسؤول
الأمنيّ لحزب الله العراقيّ، تغريدة أهان فيها رئيس الحكومة محمد شياع السوداني،
والجيش العراقيّ، وطعن ببعض رفاقه بالسلاح! وقد التزمت الحكومة الصمت ولم ترد حتّى
اللحظة!
وذكر "معهد دراسة الحرب الأمريكيّ"،
الخميس الماضي، أنّ: "الفصائل العراقيّة قد تنزل إلى الشارع إذا حاولت
الحكومة دمجها أو حلّها"!
وحصر السلاح بيد الدولة قضيّة أصيلة في
بناء منظومات الدولة ومؤسّساتها الأمنيّة، ويُفترض بالحكومة ضرب كلّ مَن يحاول
التلاعب بالأمن، ولكن كيف يُضْرَب الشريك الأصيل في إدارة الدولة؟
وشهد البرلمان، الثلاثاء الماضي، جلسة
ساخنة تخلّلتها شتائم طائفيّة ولكمات بين النوّاب المؤيّدين والمعترضين على "قانون
الحشد الشعبيّ"، ممّا دفع الرئيس محمود المشهداني لرفع الجلسة، وقد هدّده أحد
النوّاب "الشيعة" بضربه بمطرقة المجلس على رأسه! فهل هؤلاء يُمثّلون
الشعب فعلا؟
وهكذا تغوّلت هذه القوى في عموم مفاصل
حياة العراقيّين، وصارت شريكا للدولة في الأمن والاقتصاد والمؤسّسات الرسميّة، بل
إنّ بعضها شاركت الناس في مصادر رزقهم عبر المكاتب الاقتصاديّة التي لا تَسمح
بتطوير وبيع أيّ عقار إلا بعد أخذ حصّتها، وإلا فإنّ النتيجة ستكون غامضة ولا يُحمد
عقباها!
وتَغوّل الجماعات المسلّحة ليس سرّا، ولكنّ
القوى الرسميّة ما بين خائفة ومتردّدة ومجاملة خوفا وحرصا على مكاسبها الشخصيّة
والحزبيّة!
وقد لمسنا أنّ مَن يديرون البلاد ويمتلكون
السطوّة الفاعلة يمثّلون مكونا واحدا من الشعب في السياسة والإعلام، والغالبيّة
العظمى من الضيوف ومقدّمي البرامج الحواريّة يمثّلون هذا المكوّن، وأكثرهم يتحدّثون
بفوقيّة وطائفيّة مقيتة، ولا نرى أيّ إجراءات من "هيئة الإعلام" يمكن أن
تُكمم أفواه هؤلاء الزارعين للخراب والفساد الفكريّ في المجتمع!
والمقابل، فإنّ قوانين "الهيئة"
سيف مسلّط على رقاب بعض الكتّاب والمحلّلين والمدوّنين من العرب السّنّة والكرد،
وكأنّها تقول للجميع تكلّموا بما أُريد، ولا تَتقرّبوا من توصيف الواقع، وهذه
سياسات سقيمة تزرع السموم والكراهية بين الناس!
هكذا تستمرّ عمليّات التخريب والفوضى المدروسة، وهي ليست سياسات مفاجئة بل هي خطط مدروسة لإلهاء الشعب وضرب مكوّناته، ولو بإحراق البلاد بحرب أهليّة!
أما الخراب الإداريّ فقد ظهر بأبهى صوره
عبر منظومة الكهرباء التي صُرِف عليها مئات مليارات الدولارات، ووفقا لتصريح عضو
لجنة الكهرباء البرلمانيّة هاتف الساعدي، فإنّ "الكهرباء تهدر 20 مليار دولار
سنويّا للصيانة"!
وهذا يعني هَدْر 400 مليار دولار منذ
العام 2004، وهذا المبلغ يمكن أن يُشيّد شبكات كهرباء مثاليّة تكفي الشرق الأوسط
بأكمله وليس العراق لوحده، الذي يعيش أزمة كهربائيّة مع أجواء البلاد الحارة
والقاسية، ولهذا تنامت خلال الأيّام الماضية، وقد تشتدّ بعد أسبوع، المظاهرات
الداعية لترميم الكهرباء التي صارت من الأمراض الإداريّة المستعصيّة!
وهذا فضلا عن تهريب النفط، وتهديدات حزب
الله العراقيّ العلنيّة لرئيس الحكومة، واستمرار اختطاف الناشطين والإعلاميّين،
وملاحقتهم، وتنامي النزاعات العشائريّة المسلّحة، وتجارة المخدّرات والأعضاء
البشريّة، وغيرها من صور الخراب والضياع!
وهذه
الفوضى لَخّصها عضو ائتلاف الإعمار
والتنميّة أحمد العباسي بقوله يوم 28 تموز/ يوليو 2025: "بعض الأحزاب جمعت
المال عن طريق المخدّرات، والدعارة وتروم المشاركة في الانتخابات"!
وهكذا تستمرّ عمليّات التخريب والفوضى
المدروسة، وهي ليست سياسات مفاجئة بل هي خطط مدروسة لإلهاء الشعب وضرب مكوّناته،
ولو بإحراق البلاد بحرب أهليّة!
وزبدة الحال تُلخّصها مقولة الروائيّ
البريطانيّ "جورج أوريل": "الشعب الذي ينتخب المسؤولين الفاسدين هُم
ليسوا ضحيّة، بل شركاء في الجريمة"!
فمتى يتعلّم الشعب أنّ صوته وإرادته أقوى
من صوت الفاسدين والظالمين وإرادتهم؟
x.com/dr_jasemj67