لم يكن مفاجئا أن تسعى
إسرائيل إلى توسيع
نفوذها الاقتصادي في المنطقة، لكن المدهش -والمخزي في آن واحد- أن تتحول
مصر، بتاريخها
وثقلها، إلى واجهة لتسويق
الغاز الإسرائيلي، أو بالأحرى إلى ما يشبه "المحلل"
أو الذي يمنح الاحتلال شرعية عربية مزيّفة.
في قلب حرب غزة، وبينما تتصاعد مشاهد الدم
والدمار، وبدل أن تكون القاهرة في مقدمة الصف العربي الداعم للمقاومة، تفاجئنا الأخبار
بصفقة غاز هي الأضخم في تاريخ دولة الاحتلال: 35 مليار دولار لتوريد 130 مليار متر
مكعب من الغاز إلى مصر حتى عام 2040.
هذه
الصفقة ليست اتفاقا اقتصاديا عاديا،
بل ترتيب سياسي قذر، يُستخدم فيه اسم مصر لتلميع صورة الاحتلال وتسهيل اختراقه للأسواق
الإقليمية والدولية.
هذه الصفقة ليست اتفاقا اقتصاديا عاديا، بل ترتيب سياسي قذر، يُستخدم فيه اسم مصر لتلميع صورة الاحتلال وتسهيل اختراقه للأسواق الإقليمية والدولية
أنابيب الغاز.. أقنعة النفوذ
بموجب الاتفاق، يدخل الغاز المستخرج من الحقول
الفلسطينية المحتلة إلى الأراضي المصرية، حيث يُسال ويُعاد تصديره إلى أوروبا على أنه
"غاز مصري". لكن الحقيقة أن مصر في هذه المعادلة ليست إلا معبرا ومسوّقا
وغطاء، تمنح الاحتلال فرصة لتجاوز العزلة الدولية، وتقدم له شهادة زور بأن الغاز القادم
من تحت أقدام الفلسطينيين يمكن أن يُسوَّق بوسم "صُنع في مصر".
إنها صيغة متقنة من التحايل الجيوسياسي،
تتقنها إسرائيل، وتنفذها القاهرة بامتياز، في دور يليق بالمحلل أكثر مما يليق بدولة
كانت يوما قلب العروبة النابض.
التوقيت.. خيانة مضاعفة
ليست المسألة في حجم الصفقة فحسب، بل في
توقيتها ودلالاتها. فبينما تُقصف غزة ليل نهار، وتُدفن العائلات تحت الركام، تُمد القاهرة
بساطا أحمر لأنابيب الغاز الإسرائيلي، وتفتح له الموانئ والبنية التحتية والمصافي.
هنا، تتحول الصفقة إلى خيانة مضاعفة: خيانة
للقضية الفلسطينية، وخيانة للموقف العربي، وخيانة للوعي الشعبي الذي يرفض التطبيع.
الاقتصاد رهينة السياسة
قد يُقال إن الصفقة تأتي في إطار البحث عن
حلول لأزمة الاقتصاد المصري الخانقة، لكن الحقيقة أن الأموال التي تأتي على حساب الكرامة
والسيادة ليست إنقاذا، بل قيدا جديدا يربط قرار مصر الاقتصادي والسياسي برضا الاحتلال.
هل يدرك من يحكم القاهرة أنه، بهذه الصفقات، يكتب فصلا جديدا من التبعية المذلة، وأنه يحوّل مصر إلى أداة رخيصة في يد مشروع استعماري يعرف جيدا كيف يوظف "التيوس المستعارة" لخدمة أهدافه؟
من يدير أنبوب الغاز يملك القدرة على إغلاقه
ساعة يشاء، ومن يملك مصدر الطاقة يملك مفاتيح القرار.
أين البدائل؟
إن مصر -إذا أرادت- تستطيع أن تجد بدائل
عربية وإقليمية تحفظ استقلال قرارها، سواء عبر شراكات مع الجزائر وقطر، أو من خلال
الاستثمار الجاد في حقولها المحلية. لكن اختيار إسرائيل كمصدر رئيس للطاقة في هذا التوقيت
بالذات لا يمكن تفسيره إلا كجزء من سياسة تطبيع اقتصادي شامل، يكون فيه النظام المصري
الوسيط المأجور الذي يفتح الأبواب للعدو.
خاتمة: من دور الزعامة إلى وظيفة "المحلل"
بهذه الصفقة، تنتقل مصر من موقع الزعامة
التاريخية إلى وظيفة "المحلل" في زواج باطل بين الاحتلال والأسواق العالمية.
أنابيب الغاز التي تمتد من سواحل فلسطين
المحتلة إلى موانئ مصر ليست مجرد خطوط للطاقة، إنها حبال تقييد تربط القرار المصري
بإرادة تل أبيب.
وهكذا، يصبح السؤال: هل يدرك من يحكم القاهرة
أنه، بهذه الصفقات، يكتب فصلا جديدا من التبعية المذلة، وأنه يحوّل مصر إلى أداة رخيصة
في يد مشروع استعماري يعرف جيدا كيف يوظف "التيوس المستعارة" لخدمة أهدافه؟