يحدث تغير تدريجي في السياسة الألمانية تجاه "
إسرائيل"، تحت ضغط التطورات الميدانية في قطاع
غزة، والتبدلات في الديناميكيات الدولية، وتزايد الضغوط الداخلية والخارجية على الحكومة الألمانية، رغم تمسكها العلني حتى الآن بموقفها التقليدي القائم على اشتراط الاعتراف بالدولة الفلسطينية بعد التوصل إلى اتفاق سلام مع "إسرائيل".
وجاء في مقال للكاتب الإسرائيلي ليئام هور ونشرته صحيفة "هآرتس"، أن فرنسا والسعودية عقدتا الشهر الماضي قمة أممية لدفع حل الدولتين، بينما أعلنت فرنسا أنها ستعترف بالدولة الفلسطينية لاحقًا هذا العام، وتبعتها بريطانيا بتحفظات، في حين بقي الموقف الألماني محافظًا. وأكدت حكومة المستشار فريدرش ميرتس أنها ما زالت متمسكة بموقفها القائم على ضرورة الاتفاق بين الجانبين قبل أي اعتراف بالدولة الفلسطينية.
رغم ذلك، صدرت عن برلين إشارات على تحول تدريجي، وصرح وزير الخارجية الألماني، يوهان فادبول، قبل أيام من زيارته إلى "إسرائيل" والضفة الغربية، أن "الاعتراف بالدولة الفلسطينية يجب أن يكون بعد انتهاء المفاوضات"، لكنه أضاف أن "العملية يجب أن تبدأ الآن".
وفي اليوم نفسه الذي افتتحت فيه قمة الأمم المتحدة في نيويورك، عقد المجلس الأمني الألماني جلسة لبحث الأزمة الإنسانية في غزة، انتهت بإعلان المستشار ميرتس أن ألمانيا ستُسيّر جسرًا جويًا بالتنسيق مع الأردن لنقل مساعدات إنسانية عاجلة إلى غزة.
وقال ميرتس: "نعلم أن هذه مساعدات صغيرة، لكنها تعبّر عن التزامنا بإنهاء معاناة السكان"، مضيفًا: "نريد وقف القتال فورًا، ونأمل أن تنعم إسرائيل بالسلام بعد أحداث 7 أكتوبر".
من جهة أخرى، يواجه ميرتس ضغوطًا سياسية متزايدة من داخل حكومته وائتلافه. فبينما يعارض حزبه المسيحي الديمقراطي (CDU) وحليفه المسيحي الاجتماعي (CSU) توجيه أي انتقاد علني لـ"إسرائيل"، ترتفع أصوات من الحزب الاشتراكي الديمقراطي تطالب بمواقف أكثر تشددًا، تشمل وقف إطلاق النار، وفرض حظر سلاح على "إسرائيل"، وتعليق جزئي أو كلي للاتفاقات المنظمة للعلاقات الأوروبية-الإسرائيلية، وهي خطوات لم يستبعد مارتس دراستها.
وقالت موريال إسبورغ، رئيسة قسم الشرق الأوسط وأفريقيا في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية في برلين، إن العلاقة الألمانية-الإسرائيلية تشهد تغييرات تدريجية، موضحة أن "الانتقادات تجاه الحرب الإسرائيلية والمخاوف الإنسانية بدأت بالظهور تدريجيًا، وإن ظلت غالبًا ضمن الغرف المغلقة".
وتصر الحكومة الألمانية على مقاربتها الحذرة، بدأ الانتقاد العلني يظهر في بعض المواقف. ففي حزيران/ يونيو امتنعت ألمانيا عن التوقيع على بيان مشترك لـ31 دولة طالب بوقف الحرب وإزالة القيود على المساعدات ووقف الاستيطان، لكنها عادت ونشرت بيانًا منفصلًا مع فرنسا وبريطانيا يدعو إلى "إنهاء الحرب فورًا" و"رفع القيود" و"التزام إسرائيل بالقانون الإنساني الدولي".
وفي سياق مماثل، رفضت ألمانيا وإيطاليا الأسبوع الماضي التصديق على مشروع قرار أوروبي لتعليق تمويل مشاريع إسرائيلية، بينها شركات ناشئة قد تُستخدم تقنياتها في الأغراض العسكرية، وطالبتا بتأجيل القرار لحين تقييم الوضع الإنساني في غزة.
كذلك، شهد البرلمان الألماني دعوات للاعتراف بفلسطين، حيث نشرت ثلاث نائبات، من بينهن لويز إسبورغ من حزب الخضر، مقالًا في فرانكفورتر روندشاو طالبن فيه الحكومة بالسير على خطى فرنسا والاعتراف بالدولة الفلسطينية، غير أن المقال لم يحقق التأثير المرجو بحسب ناشطين.
وتؤكد الحكومة الألمانية، على لسان وزارة الخارجية، أن الاعتراف بدولة فلسطينية سيأتي فقط بعد مفاوضات ناجحة، وهو الموقف الذي جدد الوزير فادبول التأكيد عليه.
وقالت النائبة إسبورغ إن "الموقف التقليدي لم يعد مقنعًا"، معتبرة أن الاعتراف يعزز من وضوح الخطوط بين الدولتين، بينما خالفها الرأي كريستين أوبنس من منظمة "النيت" المؤيدة لإسرائيل، قائلًا إن الاعتراف سيكون رمزيًا فقط ولن يحسن الوضع على الأرض.
وأضاف أوبنس أن "ألمانيا هي أهم شريك استراتيجي لإسرائيل في أوروبا بعد الولايات المتحدة"، مشيرًا إلى أن "الانتقادات تكون أكثر فاعلية عندما تطرح في غرف مغلقة". وفي حين تستعد ألمانيا للاحتفال بمرور 60 عامًا على العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، أظهرت استطلاعات رأي تراجع النظرة الإيجابية لإسرائيل في المجتمع الألماني، حيث كشف استطلاع أجراه صندوق برتلسمان في مايو/أيار أن 36 بالمئة فقط من الألمان لديهم موقف إيجابي من إسرائيل، مقابل 38 بالمئة سلبي، في تراجع ملحوظ عن استطلاع 2021.
من جهته، قال نمرود فلشنبرغ، من منظمة "إسرائيليون من أجل السلام" اليسارية في برلين، إن سياسة الدبلوماسية الهادئة التي يتبعها مارتس "لم تحقق نتائج ملموسة"، مشددًا على أن الاعتراف بفلسطين سيكون له تأثير بعيد المدى، لكنه أضاف أن التأثير الحقيقي سيأتي فقط من خلال خطوات عملية مثل "تعليق اتفاق الشراكة مع إسرائيل أو فرض حظر سلاح شامل".
واختتم فلشنبرغ بالقول: "ألمانيا هي مركز الثقل في أوروبا، وإذا قررت اتخاذ خطوات أكثر جرأة، فسيمكّن ذلك الاتحاد الأوروبي من ممارسة ضغط حقيقي وفعّال على إسرائيل".