سياسة دولية

سباق المعادن النادر.. بين اكتناز الدول الغنية وحتمية الحوكمة العالمية

ستكون الوكالة بمثابة منصة محايدة لتسوية النزاعات والحوار..- جيتي
نشرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية، تقريرًا، سلّطت فيه الضوء على مخاطر لجوء الدول الغنية إلى تخزين المعادن الحرجة كخطة لمواجهة اضطرابات سلاسل الإمداد، مؤكدة ضرورة إنشاء وكالة دولية للمعادن الحرجة تسهم في إدارة الموارد الحيوية بطريقة عادلة ومستدامة، بشرط وجود إرادة سياسية وتعاون متعدد الأطراف لتجاوز الانقسامات والمصالح الوطنية الضيقة.

وقالت المجلة في التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إنّ: "الاتحاد الأوروبي يُجري تحولًا كبيرًا في نهجه تجاه أمن الموارد، حيث يستعد لإطلاق برنامج تخزين استراتيجي للمعادن الأساسية، والذي يشير إلى نية بروكسل في الحد من نقاط الضعف في إمدادات المواد الخام والمكونات الرئيسية، مثل الأتربة النادرة والليثيوم والمغناطيس الدائم، والتي تعتبر ضرورية لتكنولوجيات الطاقة النظيفة والبنية التحتية الرقمية والتطبيقات الدفاعية".

سباق عالمي لتخزين المعادن
رغم أن الاتحاد الأوروبي ليس أول من يتبنى مثل هذه التدابير -إذ تحتفظ اليابان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة بمخزونات وطنية من هذه المعادن- إلا أن هذه الخطوة تؤكد على رغبة عاجلة في تأمين واسع النطاق لسلاسل إمدادات المعادن الحيوية.

وحسب المجلة، قد يوفر هذا التخزين مرونة على المدى القصير، إلا أنه يعكس استجابة أحادية الجانب لتحدٍّ عالمي أوسع نطاقًا، وقد تؤدي هذه الاستراتيجية إلى تفاقم المنافسة على الموارد وتقويض الجهود الرامية إلى ضمان الوصول العادل إلى المواد اللازمة للتحول العالمي في مجال الطاقة.

وأوضحت المجلة أنّ: "حدّة التوترات الأخيرة بين الولايات المتحدة والصين بشأن صادرات المعادن النادرة قد تراجعت عقب توقيع اتفاقية تجارية جديدة الشهر الماضي، إلا أن هذه الاتفاقية لا تقدم سوى انفراجة مؤقتة في سوق متزايد التقلب، حيث تبقى التحديات الهيكلية العميقة واضحة، أي غياب حوكمة دولية قوية وتنسيق فعال لاستدامة سلاسل المواد الخام الحيوية".

ووفقا للمجلة، تؤكد بعض الأحداث التي شهدها العالم في الفترة السابقة عمق هذه المشكلة، ففي نيسان/ أبريل الماضي ضغط الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، على أوكرانيا لإبرام صفقة معادن بالغة الأهمية من شأنها أن تسمح للولايات المتحدة بالوصول إلى الموارد المعدنية الأوكرانية كشرط لاستمرار الدعم العسكري، كما كرّر ادعاءات استفزازية بشأن الاستحواذ على غرينلاند، وهي الجزيرة التي تحتوي موارد معدنية هائلة وغير مستغلة.

وترى المجلة أنّ: "هذه التطورات تسلّط الضوء على خطر متزايد يتمثل في إمكانية استخدام المواد الخام الأساسية كأدوات لممارسة الضغوط الجيوسياسية، حيث تواجه الدول الأصغر حجمًا أو الغنية بالموارد ضغوطا للدخول في اتفاقيات ثنائية غير متكافئة قد تُقوّض سيادتها وأهدافها الإنمائية طويلة الأجل".

ووفقًا للجنة الموارد الدولية، وهي هيئة من العلماء والخبراء أنشأها برنامج الأمم المتحدة للبيئة، فقد تضاعف استخراج المعادن الحرجة واستخدامها بأكثر من ثلاثة أضعاف منذ 1970، وقد يرتفع استخراج هذه الموارد بنسبة 60 بالمئة بحلول 2060، مما يؤدي إلى تزايد المخاطر البيئية وتغير المناخ والأزمات الجيوسياسية.

وقالت إنّ: "هذه الفجوة الواضحة في الحوكمة قد تؤدي إلى تفاقم التوترات بين الدول حول هذه الموارد، وتصاعد وتيرة استغلال دول الجنوب العالمي، واشتداد المنافسة العالمية على المواد الخام الأساسية".

وبحسب التقرير نفسه، فإنّ: "كل ذلك قد يُغذي عمليات التخزين، وهو ما سيؤدي بدوره إلى سباق عالمي نحو اكتناز الموارد، وبالتالي مشاكل في الأسواق وتضخم في الأسعار، وانعدام الثقة بين الدول واحتمال تنفيذ سياسات انتقامية، مثل فرض قيود أو حظر على الصادرات، والتحول نحو دبلوماسية موارد صفرية".

إطار حوكمة دولي
لمعالجة هذه القضايا، ينبغي على المجتمع الدولي -حسب المجلة- إنشاء إطار مؤسسي موثوق به لإدارة المخاطر التي تواجهها الدول وسلاسل التوريد، وتعزيز الشفافية، وضمان الوصول العادل وتقاسم المنافع.

وأكدت المجلة بأن هناك أفكارًا ومبادرات جديدة لمواجهة هذه التحديات، أحدها هو اقتراح جامعة الأمم المتحدة إنشاء صندوق عالمي للمعادن، وهو آلية للتخزين الجماعي للمعادن الأساسية وتوزيعها بشكل منسق وعادل بين الدول. فيما دعت كولومبيا إلى معاهدة عالمية للمعادن، مدفوعة بالحاجة الملحة لمكافحة تعدين الذهب غير القانوني وتأثيره المدمر على صحة الإنسان والبيئة.

وترى المجلة أنّ: "هذه المبادرات تعد خطوات جريئة نحو معالجة أحد أكثر جوانب الاقتصاد العالمي تهميشًا، لكنها تطرح تحديات كبيرة". إذ يتطلب الأمر قرارًا في الدورة السابعة لجمعية الأمم المتحدة للبيئة في كانون الثاني/ ديسمبر القادم، وهو الاجتماع الذي تعقده أعلى هيئة لصنع القرار البيئي في الأمم المتحدة.

ويُمثل عدم اتفاق الدول الأعضاء على بدء المفاوضات الرسمية عائقًا سياسيًا وإجرائيًا، خاصة في ظل تباين المصالح الوطنية بشأن السيادة على الموارد والتجارة وأولويات التنمية. وفي حال اعتماد قرار بهذا الاتجاه، من المرجح -حسب المجلة- أن تستغرق عملية التفاوض على المعاهدة عدة سنوات، على غرار المسارات المعقدة التي تمر بها بقية الاتفاقيات البيئية متعددة الأطراف.

وتضيف المجلة أنّ: "هناك خيارا آخر يتمثل في خطوة أكثر مرونة يمكن تطبيقها بشكل فوري، أي إنشاء وكالة دولية للمعادن الأرضية، تُشكلها في البداية دول متوسطة التأثير، بدلاً من الدول الكبرى".

وأصدر عدد متزايد من المنظمات الدولية والخبراء دعوة عالمية للعمل من أجل تحسين إدارة المعادن وحوكمتها على الصعيد العالمي من خلال وكالة دولية، وقد انضمت وكالة الطاقة الدولية إلى هذه الدعوات من أجل تعزيز التعاون في مجال المعادن الحيوية.

وفي أحدث تقرير لها عن التوقعات بشأن مستقبل المعادن الحيوية، والذي نُشر في أيار/ مايو، حذّرت الوكالة من تزايد مخاطر تعطل سلاسل توريد المعادن، في ظل تزايد تركيز السوق على معادن محددة  بدلاً من تنويعه.

وأكدت المجلة أنّ: "الوكالة الدولية للمعادن الحيوية قد تؤدي وظائف متعددة بالغة الأهمية، حيث ستوفر بيانات موثوقا بها عن تدفقات المواد على مستوى العالم والاحتياطيات واتجاهات السوق والأسعار ومعدلات إعادة التدوير".

كما أنها ستسهل تنسيق السياسات بشأن قضايا مثل الاستخراج المستدام وتكامل الاقتصاد الدائري والتقاسم العادل للمنافع. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للوكالة أن تقدم الدعم في حل النزاعات والتفاوض بشأن اتفاقيات المعادن.

وأخيرًا، يمكن للوكالة أن تلعب دورًا تنسيقيًا خلال حالات انقطاع الإمدادات أو التوترات الجيوسياسية، مثل الحظر الذي يحتمل أن تفرضه الصين أو غيرها من الموردين الرئيسيين في المستقبل على المواد الأرضية النادرة.

ووفقا للمجلة، من المنتظر أن يغطي مركز البيانات العالمي التابع للوكالة كامل نطاق المواد الأساسية لتحقيق أهداف المناخ والتنمية المستدامة، مع التركيز بشكل خاص على المعادن الأساسية. ويُنتظر أن يعزز مركز البيانات الشفافية عبر سلاسل التوريد العالمية، ويتيح تتبع آثارها البيئية والاجتماعية.

ولتحقيق هذه الأهداف، يمكن أن تشمل مهام الوكالة وضع معايير فنية دولية ومعايير استدامة للاستخراج والمعالجة وإعادة التدوير، بالإضافة إلى تقديم المساعدة الفنية وبناء القدرات للدول الغنية بالموارد لتعزيز قدرتها على التفاوض والرقابة البيئية.

وستكون الوكالة بمثابة منصة محايدة لتسوية النزاعات والحوار بين الحكومات والشركات والمجتمعات المتضررة من أنشطة استخراج الموارد الأرضية، ودعم الابتكار والاستثمار في التقنيات الدائرية والمواد البديلة من خلال تبادل المعرفة والشراكات بين القطاعين العام والخاص.

خطوات ضرورية
تضيف المجلة أنّ: "هناك سوابق في التاريخ الحديث لمؤسسات دولية أُنشئت لمعالجة الأزمات الجيوسياسية المتعلقة بالموارد". فقد تأسست وكالة الطاقة الدولية سنة 1974 في أعقاب أزمة النفط، والتي كشفت عن ضعف الدول المستوردة للنفط في مواجهة صدمات الإمدادات والاضطرابات الجيوسياسية.

وصُممت الوكالة لتعزيز التنسيق بين الدول الصناعية في الاستجابة لحالات الطوارئ في مجال الطاقة وتقليل اعتمادها الجماعي على نفط دول أوبك. ومن الأمثلة الأخرى الوكالة الدولية للطاقة المتجددة، التي أُنشئت عام 2009 استجابةً للوعي العالمي المتزايد بضرورة تسريع نشر تقنيات الطاقة المتجددة لمواجهة تغير المناخ، وتوفير الطاقة، وتحقيق التنمية المستدامة.

وأشارت المجلة إلى أنّ: "أحد التحديات التي تواجه إنشاء وكالة دولية للمعادن أنها تتطلب دعمًا سياسيًا من الدول المنتجة والمستهلكة على حد سواء، ناهيك عن العديد من تحديات التنفيذ، بدءًا من الحاجة إلى ترجمة مقترحات الخبراء إلى زخم سياسي".

وتتمثل الخطوة الأولى الحاسمة في قيام مجموعة من الحكومات بتقديم التزام سياسي رسمي مشترك والترويج للفكرة علنًا، ومن الأفضل -حسب المجلة- أن يتم ذلك في إطار اجتماعات متعددة الأطراف مثل مجموعة العشرين أو في الدورة السابعة لجمعية الأمم المتحدة للبيئة.

ويجب أن يُتبع ذلك بإنشاء هيكل واضح للإشراف والحوكمة، يوازن بين مصالح كل من الدول المُنتجة للمواد الخام والدول الصناعية وشركات التكنولوجيا من خلال مشاورات شاملة. وتتضمن الخطوة الثالثة -وفقا للمجلة- تأمين التمويل الأولي والدعم المؤسسي، من مزيج من الحكومات والبنوك، أو من القطاع الخيري والمؤسسات.

وأخيرًا، ينبغي أن تركز الوكالة على مجموعة من وظائف التنسيق لبناء مصداقية في مرحلة مبكرة، مثل مواءمة البيانات وبروتوكولات الاستجابة للأزمات الدبلوماسية، أو بناء قدرات الدول المنتجة للمعادن، مع ترك المجال مفتوحًا لأن تتطور الوكالة إلى هيئة داعمة للمعاهدات بمرور الوقت.

وختمت المجلة بأنّ: "إنشاء مؤسسة جديدة قد يبدو أمرًا صعبًا، خاصة في وقت تواجه فيه التعددية ضغوطًا كبيرة وتتراجع فيه العديد من الدول عن التزاماتها الدولية، لكن هذه الوكالة قد توفر مسارًا واعدًا لمواءمة الاستدامة وأمن الموارد والعدالة في اقتصاد عالمي يزداد فيه الطلب على المعادن، وقد يصبح السباق العالمي على الموارد تهديدا للأمن الدولي".