قضايا وآراء

من غزة إلى درعا: هل تنجح الشعوب في كسر هندسة الهزيمة؟

"حاول الاستبداد أن يحوّل السوري إلى مخلوق بلا تاريخ، والفلسطيني إلى مشروع نسيان متنقل، لكنه فشل"- إكس
في زمن يبدو فيه أن التاريخ قد تعلّق من رقبته فوق المشانق، وأن الجغرافيا تئن تحت وطأة الخرائط المصنوعة بالبارود، تنهض غزة ودرعا، لا كأخبار عاجلة على شريط القنوات، بل كمساحات تشق طريقها خارج النص، خارج المعادلة التي رسمها المحتل والمستبد، وقسوة الجلاد، لكن ما هي هذه المعادلة؟ إنها ليست مجرد تفوق في العتاد والسلاح، بل أعمق: إنها هندسة الهزيمة مشروع الأمد، متعدد الأدوات، تسعى فيه الأنظمة القمعية والاحتلالات المعاصرة إلى إعادة تشكيل الوعي الجمعي، بحيث تصبح الهزيمة طبيعة ثانية، والثورة جنونا، والمقاومة انتحارا.

الهزيمة كوعي مصنّع

في كتابه "الهيمنة والبقاء"، يشير نعوم تشومسكي إلى أن السيطرة الناعمة تبدأ من اللغة والصورة والنظام التعليمي، وليس من الدبابة، أما بيير بورديو، فشرح كيف تُزرع "البنية الذهنية" للفرد الخاضع منذ الطفولة، ليقبل بالعالم كما هو، لا كما يجب أن يكون، إنهم لا يكتفون بكسر العظام، بل يُطوّعون الذاكرة، ويُخرّبون المخيلة.

إن "هندسة الهزيمة" هي مشروع يسعى لجعل الهزيمة خيارا يبدو عقلانيا، إنها استبدال الحس المشترك الثوري بحس "براغماتي" خانع، حيث يصبح الحياد حكمة، والسكوت نجاة. وهي أيضا تحويل الزمن نفسه إلى أداة قمع: فحين تتراكم الخيبات، تتحول كل محاولة جديدة إلى "إعادة مأساة"، فيتم إجهاض الثورة بوصفها تكرارا لما سبق.

رفض الناس أن يكونوا مجرد نتائج منطقية لمعادلة السلطة. قاوموا لا فقط بالسلاح أو الصراخ، بل بالمعنى، بذلك المعنى العنيد الذي لا يزال يرى أن الكرامة لا تقايَض بالخبز، وأن المأساة، حين تتحوّل إلى ذاكرة حية، تصير قوة دفع لا عبئا

أدوات الاستبداد في هندسة الهزيمة

ولكي نفهم هندسة الهزيمة بوصفها ممارسة متكاملة، لا بد من التوقف عند آلياتها كما تتجلى في يوميات المجتمعات المقهورة، فالاستبداد شأنه شأن الاحتلال، لا يكتفي بالسيطرة على المجال العام، بل يتسلل إلى الشقوق الخفية في الروح الجماعية، يندسّ في التربية، في الخوف الصامت، في اللغة اليومية، وحتى في الأحلام التي يُعاد تكييفها كي تنسجم مع ما يريدون.

أولى أدواته، وأكثرها بدائية وفتكا، هي العنف المستعرض، ذلك الذي لا يُمارس كضرورة أمنية، بل كلغة رمزية. العنف هنا ليس لتأديب جسد، بل لكسر معنى. هو استعراض للسلطة عبر إذلالها للناس، وخصوصا أولئك الذين لم يعودوا قادرين على الصراخ. لذلك كان التعذيب في سجون مثل صيدنايا، كما وصفه الناجون، أقرب إلى مسرح دموي يُراد به إرسال رسائل إلى الخارج أكثر مما يُقصد به انتزاع اعتراف، وكحال الإبادة الوحشية في غزة.

ثم هناك العمل الدؤوب لتفكيك النسيج الاجتماعي نفسه. حين تغدو الدولة الأمنية خائفة من التضامن، تبدأ بخنقه؛ تفصل القرى عن المدن، تبث الطائفية بين المكونات، وتُروّج لخطابات تقوم على الشك والريبة. الجار لم يعد شريكك في الألم، بل ربما هو عين الدولة المزروعة فيك. وهكذا، يُخلق الفرد المعزول، المقطوع عن أي بنية دعم، فلا ثقة تُبنى، ولا أمل يُنسج.

وإذا كانت الأنظمة تخاف من الكلمة الحرة، فهي تدرك أكثر أن الرموز هي مفاتيح الذاكرة الجمعية. لذلك تعمد إلى تحويل المدن إلى أيقونات رعب؛ تصبح غزة، حماة، الفلوجة، مخيم جنين، ودرعا نفسها، إشارات تحذيرية في اللاوعي: "لا تقترب، هذه المدن جرّبت أن تنهض"، فكان نصيبها المجازر. هكذا تُعاد كتابة الجغرافيا، لا بوصفها أماكن فقط، بل كرسائل مُضمرة عن المصير الذي ينتظر من يحاول تغيير النص.

أما الإعلام والتعليم، فهما الورشة الكبرى لإنتاج "الإنسان المهزوم"، لا يُلقّن فيها الطالب دروس التاريخ بقدر ما يُربّى على نسيانه، ولا تُقدَّم فيها الأخبار بوصفها كشفا للواقع، بل بوصفها وصفات للخضوع كل يوم، في نشرات الأخبار، يُقال لك: "أنظر كيف دُمّرت غزة، كيف خُنقت درعا، كيف انتهت الثورة"، كي تقتنع بأنك كنت حالما أكثر من اللازم.

وهكذا، تُخلق البيئة المثالية لنمو الهزيمة كهوية. فلا يعود المواطن فقط ضحية، بل يصير حارسا لهزيمته، يربي أبناءه على الحذر، يهمس في آذانهم: "لا تفعلوا ما فعلنا، لا تحلموا كثيرا".

لكن كل هذه الأدوات، على تعقيدها وترسّخها، ارتطمت بصخرة وعي لم تُهذَّب كما ينبغي في غزة ودرعا. ففي هاتين البقعتين، رفض الناس أن يكونوا مجرد نتائج منطقية لمعادلة السلطة. قاوموا لا فقط بالسلاح أو الصراخ، بل بالمعنى، بذلك المعنى العنيد الذي لا يزال يرى أن الكرامة لا تقايَض بالخبز، وأن المأساة، حين تتحوّل إلى ذاكرة حية، تصير قوة دفع لا عبئا.

لقد حاول الاستبداد أن يحوّل السوري إلى مخلوق بلا تاريخ، والفلسطيني إلى مشروع نسيان متنقل، لكنه فشل، لأن بعض الجروح لا تندمل، بل تتحول إلى بوصلات.

غزة ودرعا: حين يُخفق الموت في صناعة الصمت

في غزة، ليست الحرب مجرد استهداف عسكري، ولا الحصار مجرد أداة خنق، بل نحن أمام مشروع سلطة من نوع خاص، سلطة تتحكم بالحياة كما بالموت، تعيد صياغة الزمن الفلسطيني بحيث يصبح الحاضر مجرد حالة انتظار، والمستقبل مساحة خالية من الاحتمالات. هنا تصبح الحياة نفسها جزءا من استراتيجية القتل المؤجل، حيث كل شيء خاضع للتوقيت الإسرائيلي: متى تدخل الكهرباء؟ متى يُسمح للمريض بالعبور؟ متى يعود الإسمنت؟ ومتى يُستأنف القصف؟

بمعايير ميشيل فوكو غزة هي نموذج تطبيقي للسلطة التي لم تعد تُمارس فقط عبر أدوات السيادة التقليدية (القتل، الحرب، القانون)، بل من خلال إدارة الحياة نفسها: تقسيمها، تنظيمها، ترشيدها، وتحويل سكان غزة إلى "أجساد قابلة للإدارة". لا يُقتَل الفلسطيني فحسب، بل يُخضع قبل أن يُباد، يُراقَب قبل أن يُمسَح، يُرسم رقميّا على الشاشات قبل أن يُستهدف.

اما درعا التي كانت مهد الثورة، لم تكن مجرد مدينة، بل كانت نبوءة، ووصمة، لذلك جرى التعامل معها بعقيدة سلطوية قائمة على "الردع الرمزي"، بحيث لا يكفي سحق المظاهرات، بل يجب سحق المعنى نفسه، تحويل المدينة إلى جثة سياسية، لا لتُنسى، بل لتكون درسا حيا لمن تسوّل له نفسه التمرد.

غزة ودرعا لا تُشبهان المدن التي تعبت من الحلم، بل تُشبهان أولئك الذين يعرفون أن السلطة حين تتحول إلى قدر، فإن رفضها يصبح فعلا ميتافيزيقيّا، لا سياسيا فقط. في درعا، كما في غزة، لا يُنظَر إلى العالم من موقع الضحية، بل من موقع الإنسان الذي لم يَعُد يقبل أن يُدار، أو أن يُربّى على الصمت

كما في تحليلات فوكو، لم يكتفِ النظام بالقتل، بل سعى إلى ضبط الجسد والروح معا: الاعتقال الواسع، التعذيب الممنهج، تفتيت النسيج الأهلي، تصفية القيادات المحلية، إعادة بناء الخريطة السكانية عبر التهجير والمصالحات القسرية، وأخيرا، قتل الفكرة نفسها: أن يكون للناس صوت.

لكن ما لم يُحسب له حساب أن كِلا الجبهتين -غزة ودرعا- رفضتا الاندراج في هذا المشروع. ففي غزة، الموت لم يعد قوة ردع، بل تم تحويله إلى عنصر من عناصر الحياة اليومية، تُبنى البيوت ويُربى الأطفال تحت القصف، وتُكتب القصائد في انتظار الطائرات. هنا لم تعد "الحياة" مِلكا للعدو، بل استعادة للمعنى. فالموت، حين لا يخيف، يفقد وظيفته السلطوية.

وفي درعا، التي أراد لها النظام أن تُدفن في ذاكرة الخوف، كان الرد من نوع آخر. لم تكن المقاومة بالسلاح دائما، بل بإصرار الناس على أن لا يُقال عنهم إنهم "عادوا إلى بيت الطاعة". هنا برز مفهوم الذاكرة كمقاومة؛ أن تبقى أسماء الشهداء محفورة على الجدران، أن ترفض الأمهات التوقيع على بيانات الإدانة، أن يُعاد الاحتجاج حتى لو كان صامتا، فهذا كله كسرٌ للانضباط السلطوي الذي أراده النظام السوري.

درعا، كما غزة، لم تنسَ، وهذا ما أفشل مشروع السلطة. فالنسيان، في سياق القمع، هو النصر الحقيقي للطغيان. حين تُنسى المجازر، تُسقط الأجيال القادمة حقها في الحلم، لكن حين تحتفظ المدن بذاكرتها، فإنها تصير كيانات مقاومة، لا فقط.

في الحالتين، فشلت السلطة في تحويل الشعوب إلى أرقام، وفشلت في هندسة الهزيمة كهوية. فغزة ودرعا لا تُشبهان المدن التي تعبت من الحلم، بل تُشبهان أولئك الذين يعرفون أن السلطة حين تتحول إلى قدر، فإن رفضها يصبح فعلا ميتافيزيقيّا، لا سياسيا فقط. في درعا، كما في غزة، لا يُنظَر إلى العالم من موقع الضحية، بل من موقع الإنسان الذي لم يَعُد يقبل أن يُدار، أو أن يُربّى على الصمت.

إن فوكو، لو رأى درعا، لرأى فيها رفضا لسلطة المراقبة، ولو تأمّل غزة، لربما عدّل نظريته عن السلطة الحيوية، لأنّ هناك، في الزنزانة المفتوحة على البحر، وفي مدينة تغرق تحت القصف، يُعاد تعريف "الحياة" لا كمجرد استمرار بيولوجي، بل كإرادة وجود ترفض الخضوع وتكفر بهندسة الهزيمة.