دعونا نُسمّي الأمور
بأسمائها.. من ينتظر شكرا على موقفٍ إنساني، أو يتوق لمقابل على
تضامنه مع شعب يُباد، فليحتفظ
بموقفه لنفسه.. من يتصدّر المنصات كي يُصفّق له على تبرّعه، أو من ينشر صورا تُوثّق كم "دما
تبرّع به"، فليعلم أن
غزة لم تطلب منه شيئا أصلا.
الله غنيّ عن كل تبرّع
مشروط، وكل وقفة تُقايَض بالثناء، وكل كلمة تُقال طمعا بصورة أو مديح.
غزة لا تحتاج استعراضا،
بل تحتاج من يقف معها بصمت الكرام، لا صخب المتاجرين.. غزة تحتاج فعلا يُشبه وجعها، لا كلاما يُشبه المنصات.
التضامن الحقيقي لا
يُشترط
غزة لا تحتاج استعراضا، بل تحتاج من يقف معها بصمت الكرام، لا صخب المتاجرين.. غزة تحتاج فعلا يُشبه وجعها، لا كلاما يُشبه المنصات
في كل مرة تشتد فيها
المحن على غزة، تتكرر المواقف الرمادية: يطلبون الشكر بشكل أو بآخر، وكأن
التضامن صار سلعة، لا التزاما أخلاقيا.
في عرف الكرام، من
يُقدّم موقفا من أجل الحق لا ينتظر التصفيق، بل يرى في وقوفه مع المظلوم شرفا لا منّة. تاريخ الإنسانية حافل
بشخصيات دفعت أعمارها ثمنا للحق، ولم تنتظر شيئا في المقابل.
تأمّلوا في راشيل
كوري، الناشطة الأمريكية التي دهستها جرافة الاحتلال الإسرائيلي عام 2003، وهي تحمي منزل عائلة
فلسطينية في رفح. ما كانت تريد مديحا، بل أصرّت أن تكون "إنسانة فقط"
بحسب كلماتها. لم تسجل موقفها على إنستغرام، ولم تطلق حملة لتلميع الذات عبر وسائل الإعلام،
ولم تركض خلف التكريم. كانت صادقة في موقفها،
ولذلك خُلّدت في ذاكرة الضمير الإنساني.
غزة اليوم ليست مجرد
مدينة محاصرة، بل مرآةٌ يُختبر فيها صدق المواقف:
هل نقف مع الضحية
لوجه الحق؟ أم نتضامن "على الخفيف" ما دام الإعلام يسمح، وننأى بأنفسنا عندما
تصير الوقفة مكلفة؟
هل نتعامل مع دم أطفال
غزة كجريمة؟ أم نبحث لها عن تبريرات لنبقى في المنطقة الرمادية؟
الحقيقة أن غزة لا
تُفرز فقط من يناصر المظلوم عمن يقف مع الظالم، بل تميّز أيضا بين المتضامن الحقيقي
و"الترند"، بين من يرى في التضامن واجبا إنسانيا، ومن يراه استثمارا اجتماعيا.
في كل معركة أخلاقية،
هناك دائما من يريد أن يتربّح من موقف،لكن التاريخ لا يحفظ أسماء أولئك الذين وقفوا لأجل الصورة،
بل يُسطّر من تجرّأ على أن يقول كلمة حق في وجه الظلم، ودفع ثمنها.
غزة -كما كل قضية
عادلة- لا تحيا بالتصفيق،
بل بمن يحملها في قلبه حين تُغلق الأبواب، ويصمت الإعلام، وتتراجع الحناجر.
لا نحتاج لمن "يُتبرّع" بالتضامن ثم يُرسل الفاتورة، بل نحتاج من يُحبّ فلسطين وكأنها
قطعة من قلبه، لا كبند من تسويق حكومته أو حملته الانتخابية أو منشورا يبحث به عن اللايكات.
غزة لا تحتاج "أبطالا" بل أحرارا.. لا تحتاج صورا، بل ضمائر.. لا تحتاج كلمات، بل مواقف
أقولها بحبٍّ وصراحة،
وإن بدت قاسية: لا تؤذوا غزة أكثر.. لا تجعلوا من دم أبنائها وسيلة للشهرة، ولا من وجعها مادة
للتسلية أو للخطابة.
من أراد أن يتضامن،
فليفعل ذلك كما يفعل الإنسان لأخيه الإنسان.. ومن أراد أن يُشكر، فليبحث له عن مشهدٍ آخر غير المجازر، وميدانٍ آخر غير المذابح.
غزة لا تحتاج "أبطالا" بل أحرارا.. لا تحتاج صورا، بل
ضمائر.. لا تحتاج كلمات، بل مواقف.
وفي المحصلة، من لا
يرى في التضامن مع غزة واجبا أخلاقيا بحتا، فليس أهلا لأن يُحسَب في صفّ الإنسانية
أصلا.
وأعتذر -بصدق- إن كانت الحقيقة جارحة للبعض، لكنها تبقى الحقيقة، مهما حاولنا تلطيفها بالكلمات.