"أنتَ تتحدّثُ من الخارج.. خُذ راحتكَ بالكلام!"..
عبارةٌ
كثيرا ما تتكرّرُ حين يُعبِّرُ مُغتربٌ أو مُعارِضٌ مُقيمٌ خارجَ بلدهِ عن موقفهِ من
القمعِ أو الفسادِ أو التخاذُلِ فيه؛ يُرادُ بها التقليلُ من قيمةِ رأيه، أو تسويغُ
الصّمتِ داخل البلاد، أو تحميلُ الخارجِ وحدهُ مسؤوليَّةَ التّغيير، وكأنَّ الوطنَ
مُعلّقٌ بين غرباءَ لا يربطُهم به إلّا جوازُ سفرٍ.
هذا
التّبريرُ ليسَ جديدا، لكنَّهُ اليومَ يتجدّدُ بلغةٍ أكثرَ حدَّة، خصوصا مع تصاعدِ
جرائمِ الأنظمة، واتّساعِ رقعةِ المُهجّرينَ والمنفيّين، وتزايدِ من يستخدمونَ منابرَ
الخارجِ لكشفِ الحقائقِ أو التّضامنِ مع المظلومين.
والسّؤالُ
هنا: هل يُعدُّ التّعبيرُ عن الرّأيِ من خارجِ البلدِ "تَرَفا" يُعفي الدّاخلَ
من دوره؟ وهل فعلا من هم في الخارجِ بمنأى عن التّبعات؟ وهل يصحُّ اختزالُ العملِ الوطنيِّ
في الموقعِ الجغرافيِّ فقط؟
هل يُعدُّ التّعبيرُ عن الرّأيِ من خارجِ البلدِ "تَرَفا" يُعفي الدّاخلَ من دوره؟ وهل فعلا من هم في الخارجِ بمنأى عن التّبعات؟ وهل يصحُّ اختزالُ العملِ الوطنيِّ في الموقعِ الجغرافيِّ فقط؟
لا
جنّةَ على الأرض
في
البدءِ، لا بدَّ من التّأكيدِ على حقيقةٍ أساسيّة: لا توجدُ جنّةٌ على الأرض، لا في
الدّاخلِ ولا في الخارج، فكلُّ بلدٍ -حتّى أكثرها ديمقراطيّة- له إكراهاتُهُ وحدودُهُ.
والمُقيمُ
في الغربِ قد يُلاحَقُ بتهمةِ "التّحريض"، أو يُستهدفُ بالتّضييقِ المهنيِّ
أو الإعلاميِّ، خاصّة حين يتعلّقُ الأمرُ بقضايا حسّاسةٍ كفلسطين، أو حقوقِ الإنسانِ
في الأنظمةِ الحليفةِ لتلك الدّول. بل إنّ عددا غيرَ قليلٍ من النّشطاءِ في
المنفى
يُمنعونَ من زيارةِ بلدانِهم الأصليّة، أو يُمنعونَ من تجديدِ أوراقِهم، أو يُلاحَقُ
أقاربُهم، أو تُوضَعُ أسماؤُهم على قوائمِ ترقُّبِ الوصولِ أو المنع، وآخرون تُشنّ
ضدّهم حملاتٌ إعلاميّة، أو يُساءُ استخدامُ القضاءِ لتشويهِهم.
فالغربةُ
لم تَعُدْ ملاذا آمنا كما يتوهّمُ البعض، بل أضحت ساحةَ مواجهةٍ بوسائلَ مختلفةٍ. ولعلّ
قضيّةَ الصّحفيّ السّعوديّ جمال خاشقجي، الّذي اغتيل في قنصليّةِ بلادهِ في إسطنبول
عام 2018، أبرزُ دليلٍ على أنّ "الخارج" لم يَعُدْ حاجزا يحمي من بطشِ الدّاخل.
الواجبُ
يُقدَّرُ بالوُسْع
مع
ذلك، فكلُّ إنسانٍ يُحاسَبُ وفقَ طاقته. فالدّاخلُ قد يكونُ محكوما بإكراهٍ أمنيٍّ
خانقٍ، ويُعرّضُ فيه مجرّدُ التّعبيرِ عن الرّأي لخطرِ الاعتقالِ والتّعذيبِ والتّشويه،
وهو ما يفرضُ مراعاةَ واقعِه، وعدمَ التّهوينِ من مأساتِه. لكنّ
ذلك لا يعني سقوطَ الواجبِ عنه بالكامل، بل يعني أنْ يُؤدّيَ ما يستطيعُ: بالكلمةِ
الحكيمة، بالموقفِ الصّامت، بالمساندةِ الخفيّة، أو حتّى بعدمِ المشاركةِ في الباطل.
وكذلك
الخارج، لا يجوزُ له أن يختبئَ خلفَ الرّاحةِ النّسبيّة فيمارسَ التّخوينَ أو التّوبيخَ
دونَ فَهمٍ للواقع، بل واجبُهُ أن يُكمِلَ الدّور، لا أن يُصادِرَ غيرَه.
فالمعادلةُ
السّليمةُ تقومُ على التّكاملِ لا التّنافُر. وقد عبّرَ المفكّرُ عبد الرّحمن الكواكبيّ
عن هذه الفكرة قبل أكثرَ من قرنٍ، حين قال: "الاستبدادُ يشتدُّ بالبُلدانِ الّتي
يكثرُ فيها المُبرّرون له، ويضعفُ في البلادِ الّتي يكثرُ فيها المقاومون له".
الدّاخلُ
والخارجُ.. تَكامُلٌ لا صراع
إنّ
محاولةَ خلقِ خصومةٍ بين الدّاخلِ والخارجِ ليست بريئة، فهي تصبُّ في مصلحةِ
الاستبداد،
وتُشغلُ النّاسَ بصراعٍ جانبيٍّ بدلَ مواجهةِ أصلِ الأزمة.
في ميزانِ الوعي، لا يُوزَنُ الإنسانُ بمكانِ إقامته، بل بموقفه، ونيّته، واستعدادهِ لبذلِ ما يستطيع. فـ"المنفى" ليس قداسة، و"الدّاخل" ليس عذرا، والمقياسُ الحقيقيّ هو الصّدقُ، والنيّةُ، والبذلُ ضمنَ الوُسع
فالخارجُ
يمكنُ أن يكونَ صوتا، والدّاخلُ أرضا، وكلاهما يحتاجُ الآخر. ومن تجاربِ الثّوراتِ
العربيّة، نرى كيف شكّلت الأصواتُ الحرّةُ في المنافي امتدادا إعلاميّا ودوليّا للانتفاضاتِ
الشّعبيّة، وكيف أنّ الدّاخلَ هو الّذي يملكُ الشّرعيّةَ الشّعبيّة والواقعَ الميدانيّ.
وحين تَكاملا، أحرجا الاستبداد، وحين تنازعا، خسر الجميع.
لا
تقتلِ الصّوت.. استفِدْ منه
من
المؤلمِ أن نرى بعضَ مَن هم في الدّاخلِ لا يُطالبونَ بمساحةِ حرّيةٍ لأنفسِهم، بل
يُهاجمونَ مَن يملكُ هذه المساحةَ في الخارج! وكأنَّ المطلوبَ ليسَ اتّساعَ فضاءِ الحريّة،
بل ضيقُهُ على الجميعِ بالتّساوي.
وهذا
من أعجبِ ما يمكن أن يُقال في زمنِ الانكسار، إذ الأصلُ أنَّ كلَّ صوتٍ حرٍّ هو رصيدٌ
لا خصم، وكلُّ منبرٍ صادقٍ هو مكسبٌ لا تهديد. فلا تُخرِسْ من يستطيعُ أن يتكلّم، ولا
تُعذّبْ من لا يستطيع، بل اجعلْ من حريّةِ الأوّلِ سندا للثّاني، ومن صمتِ الثّاني
محفّزا للأوّلِ كي يعلوَ صوتُه أكثر، لا ليحترق، بل ليُنير.
في
ميزانِ الوعي، لا يُوزَنُ الإنسانُ بمكانِ إقامته، بل بموقفه، ونيّته، واستعدادهِ لبذلِ
ما يستطيع. فـ"المنفى" ليس قداسة، و"الدّاخل" ليس عذرا، والمقياسُ
الحقيقيّ هو الصّدقُ، والنيّةُ، والبذلُ ضمنَ الوُسع.
فلنكفَّ
عن محاكمةِ بعضِنا بناء على الجغرافيا، ولنُحاكمْ مواقفَنا جميعا بناء على القيمِ والواجبات.