مقالات مختارة

الحلف الأطلسي: مخادعة السطح وتأزّم الباطن

عربي21
قد تقتضي الاستعانة بدلالات المعطى الإحصائي عدم الاستهانة بالتفصيل الذي يسوقه الكاتب والصحافي الهندي ــ الأمريكي فيجاي براشاد، تعليقاً على قمة الحلف الأطلسي الأحدث التي احتضنتها لاهاي مؤخراً: بيان قمّة الحلف في واشنطن، صيف 2024، استغرق 5,400 كلمة و44 فقرة؛ وبيان لاهاي كان الأقصر في تاريخ القمم الأطلسية، فلم يتجاوز 427 كلمة، وتألف عملياً من 5 نقاط، تناولت اثنتان منها حول المال والأعمال، وثالثة تتوجه بالشكر إلى هولندا لاستضافة القمة.

تلك، أغلب الظنّ، علامة السطح المباشرة الأولى على اضطرار قيادات الحلف (وهي اليوم 32 دولة في القارة الأوروبية وأمريكا الشمالية) إلى مراضاة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في أوّل قمّة يحضرها خلال ولايته الرئاسية الثانية الحالية. هو الذي، في مناسبات سالفة من داخل قمم أطلسية أو تصريحات رئاسية أو حتى خارج الخدمة، لم يجد حرجاً في توبيخ الحلفاء على عدم رفع مساهماتهم إلى 4٪ من ميزانيات الإنفاق الدفاعي، واستبطان السخرية من الحلف ذاته عن طريق التعاطي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من دون إشراك الحلف أو الاتحاد الأوروبي.

علامة السطح المباشرة الثانية هي أنّ مطلب ترامب، بصدد نسبة الإنفاق الدفاعي، ارتفع في سنة 2025 عمّا كان عليه في سنة 2018، فبات اليوم 5٪ ليس أقلّ؛ وتزاحمت عواصم أوروبية كبرى مثل برلين وباريس ولندن على امتداح الخطوة؛ وكأنها ليست بند الإرغام الذي اشترطه البيت الأبيض، قبل أن يعيد ترامب تكرار تغريدته الشهيرة التي توبّخ الحلف: «من دون نجاح، حاول الرؤساء طوال سنوات دفع ألمانيا وسواها من أمم الأطلسي الغنية إلى سداد المزيد لقاء حمايتها من روسيا.

إنهم يدفعون قسطاً ضئيلاً من نفقتهم. الولايات المتحدة تدفع عشرات المليارات من الدولارات أكثر مما يتوجب لإعانة أوروبا، وتخسر كثيراً في التجارة». وكذلك، في تغريدة لاحقة: «وفوق كل شيء، بدأت ألمانيا تدفع لروسيا، البلد الذي تطلب الحماية منه، مليارات الدولارات لقاء احتياجاتها من الطاقة عبر أنبوب آت من روسيا. هذا غير مقبول».

وأثبت ترامب، في قمة لاهاي الأخيرة، أنه غير مقبول من جانب واشنطن، الأمر الذي استوجب تبديله جذرياً، شاء أخوة السلاح الأوروبيون أم ترددوا وغمغموا وأبوا؛ فليس المشهد الكوني الراهن، مع حروب عسكرية فعلية في أوكرانيا والشرق الأوسط، وحروب تجارية فعلية على صعيد الرسوم الجمركية والتجارة الدولية والتكنولوجية مع الصين، يسمح بالمجازفة في صدام جديد مع سيد البيت الأبيض، القائد الفعلي للنظام الرأسمالي العالمي.

التنابذ بالتصريحات مع الشقيقة الكبرى أمريكا، حتى تلك الأشدّ انتهاجاً لمفردات التهذيب الدبلوماسي و«التضامن القِيَمي» شيء مختلف تماماً عن مواجهة واشنطن في قلب مؤسسات حلف شمال الأطلسي؛ الاقتصادية والتجارية والتسلّحية والتكنولوجية، قبل تلك السياسية.

فماذا عن علائم العمق غير المباشرة، وغير الظاهرة للعلن، حيث تأزّم الباطن وخلفيات المأزق الأقرب إلى اعتلال وجودي أُصيب به الحلف منذ عقود ربما، أو بالأحرى منذ انطواء صفحة الحرب الباردة في استقطاباتها المكشوفة وخلاصاتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والإيديولوجية؟

الأمين العام للحلف، مارك روته، لم تسعفه قواميس الماضي لتوصيف حاضر الحلف ومستقبله، ليس لعجز عن استحضارها وإلزام الراهن بها؛ بل جوهرياً لأنّ مهامّ الحلف الفعلية، المرئية والمطلوبة، لم تعد تتجاوز ما أعلنه بنفسه قبيل قمة لاهاي: نسبة الـ5٪ المضافة إلى ميزانيات الإنفاق الدفاعي، ثمّ توطيد الإنتاج الصناعي العسكري (بما لا يتفوق على الولايات المتحدة، ضمناً وموضوعياً أيضاً) و… مواصلة دعم أوكرانيا (حيث صار المبدأ قابلاً للأخذ والردّ في ضوء سياسات ترامب الحالية، بعد أن كان مفروغاً منه ومسلّماً به أيام سلفه جو بايدن).

وليس تفصيلاً عابراً أنّ روته تفادى الإفراط في البلاغة، حول طرازَين من التهديدات التي تواجه الحلف اليوم، الإرهاب بالطبع، ثمّ روسيا بوتين؛ وليس أيضاً لأنّ تهديدات أخرى يمكن إدراجها في قلب الموازين الجيو ــ سياسية التي أقامت أود الحلف على مدى عقود وهي اليوم تتبدّل وتتحوّل، فحسب؛ بل كذلك لأنّ إدراج الصين في اللائحة، يستتبع إعادة النظر في أولويات تجارية وتكنولوجية بالغة التعقيد، بِنت زمانها وأوانها ولم تعد أسيرة قواعد الاشتباك خلال عقود الحرب الباردة.

صحيح أنّ الصين، طبقاً لـ«المفهوم الستراتيجي» للحلف، المصاغ سنة 2022، تُعتبر «تهديداً منتظماً للأمن الأورو ــ أمريكي»؛ ولكن أليست 29 دولة أوروبية، من أصل 44، شريكة في المشروع الصيني العملاق «مبادرة الحزام والطريق» BRI، أو طريق الحرير الجديد؟ ألم توقّع 14 دولة أوروبية على «مذكّرة التفاهم مع الصين» للتعاون في شؤون التجارة والتنمية؟ فكيف يمكن التوفيق بين التعاون والتهديد، أو في وجهة أخرى للإشكالية ذاتها: كيف تتعاون أوروبا مع الصين، وتحجم عن ذلك الولايات المتحدة بما تمثّل في هرمية العالم الرأسمالي، وعالم الحلف الأطلسي؟
اليوم، قبيل وصوله إلى قمة لاهاي، ترك ترامب الكثير من الضباب حول التزام واشنطن بالدفاع المشترك

ليست أقلّ تعبيراً عن تأزّم وجودي في الباطن خلاصةٌ كبرى فارقة تتساءل عن مصادر الـ5٪ المنتزَعة من الناتج المحلي الإجمالي لـ32 دولة أوروبية، رأسمالية يسود فيها اقتصاد السوق للتذكير الدالّ: من أين ستأتي تلك المليارات، وعلى حساب مَن، وكيف، وما العواقب؟

فيجاي براشاد يضرب مثال ألمانيا، الدولة الأوروبية الكبرى والأرفع تصنيعاً، حيث ستضطر الحكومة إلى تأمين 650 مليار يورو خلال السنوات الخمس المقبلة، وستكون مجبرة على توفير 144 مليار يورو سنوياً من داخل ميزانية هي أصلاً قائمة على تقشف واستدانة متزايدة، وحيث زيادة الضرائب غير مرجحة لأسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية متشابكة، حتى حين يتصل الأمر بضريبة القيمة المضافة. ما العمل، إذن، وهذا السؤال الذي اقترن بشخص بلشفي مثل فلاديمير إلليتش لينين يُسلّط على رأس المستشار الألماني فردريش ميرتس، قاطعاً وحاداً كسيف… رأسمالي هذه المرّة!

هذا بمعزل عن احتمالات «انشقاق» عدد من الدول الأعضاء في الحلف، إسبانيا وسلوفاكيا حتى الساعة، اعتماداً في العلن على خطط أخرى لتوطيد الصناعات الدفاعية من دون اللجوء إلى نسبة الـ5٪؛ ورضوخاً، في الواقع الفعلي، لاعتبارات العجز التامّ عن توفير تلك المليارات، التي سوف تُقتطع حكماً من ميزانيات تنموية لن يسفر الانتقاص منها إلا إلى اختلال.

هذه، بدورها، علامة عميقة لا تقتصر آثارها على اقتصاديات هذا البلد العضو في الحلف أو ذاك، بقدر ما تشتبك مع المعمار الإيديولوجي لحلف قام أصلاً على ركائز رأسمالية، لا تكترث أوّلاً إلى متطلبات الرفاه الاجتماعي بقدر ما تنحني حكماً لمبدأ «دعه يعمل، دعه يمرّ» حتى على جثث البؤساء.

تبقى، بالطبع، المادة الخامسة في المعاهدة الأمّ التي أنشأت الحلف، وتخصّ الدفاع الجماعي، وكانت آخر اختباراتها حين أسقطت المقاتلات التركية طائرة سوخوي ـ 24 روسية، شتاء 2015، بعد أسابيع قليلة من التدخل الروسي العسكري لصالح النظام السوري. الاحتقان دام فترة قصيرة، وتمكنت أنقرة وموسكو من تحويله إلى تفاهم ومحاصصة، لكن المادة الخامسة فشلت في توفير أيّ طراز من الترجمة الفعلية على الأرض. اليوم، قبيل وصوله إلى قمة لاهاي، ترك ترامب الكثير من الضباب حول التزام واشنطن بالدفاع المشترك: «يعتمد الأمر على تعريفك، هناك تعريفات عديدة للمادة الخامسة، ولكنني ملتزم بأن أكون صديقاً لهم يلتزم بمساعدتهم».

وهذا، بدوره، مظهر السطح من مخادعة الحلف لذاته، على سبيل إخفاء التأزم الوجودي في العمق والباطن.

القدس العربي