بدأ المسلسل من قرار الرئيس الأمريكي دونالد
ترامب تغيير تسمية
البنتاغون الرسمي، من «وزارة الدفاع» إلى «
وزارة الحرب»؛ مستعيداً بذلك المسمى الذي اعتمده الرئيس الأمريكي الأسبق جورج واشنطن قبل 236 سنة، وذلك لأنّ صفة الحرب هذه، أكثر من صفة الدفاع، هي التي «تضمن السلام عبر القوّة، وتُظهر قدرتنا واستعدادنا للقتال والانتصار في الحروب بالنيابة عن أمّتنا، وليس الدفاع فقط»؛ كما جاء في قرار ترامب القاضي بتغيير المسمّى.
الحلقة التالية في المسلسل دشنها خطاب ترامب أمام عشرات من جنرالات وأدميرالات الجيش والبحرية، تمّ استدعاؤهم بالجملة إلى قاعدة كوانتيكو لمشاة البحرية، في ولاية فرجينيا؛ حيث اختلطت لغة الرئيس الساخرة الجلفة، بلغة وزير حربه بيت هغسيث الجوفاء المتفذلكة. وإذ التزم كبار ضباط الجيش الأمريكي الصمت المطبق إزاء أوّل تهديدات ترامب («غير مسموح بالضحك. إذا لم يعجبك ما أقوله، يمكنك مغادرة الغرفة. وعلى المحكّ رتبتك ومستقبلك»)؛ فإنّ هغسيث انخرط مجدداً في تبيان فلسفة «روح المحارب» Warrior Ethos المزعومة، التي تتضمن الإقلاع عن «سياسات مدنية وضعها قادة سياسيون حمقى ومتهورون»، وذمّ خيارات التنوّع في الجيش الآمريكي، وحضور الأفراد المتحولين جنسياً، أو الإلزام المسبق بتلقّي لقاح كوفيد ـ 19… تحت طائلة هذه القاعدة « إذا أثقلت على قلوبكم الكلماتُ التي أقولها اليوم، فإنّ عليكم أن تقوموا بما هو مشرّف، وأن تستقيلوا».
وإذا كان ترامب قد صرف من الخدمة عدداً غير مسبوق من الجنرالات، ويتوجه إلى تخفيض وجودهم في مختلف صنوف الأسلحة بمعدّل 20٪؛ فإنّ وزير الحرب سخر من شخصية «الجنرال البدين» الذي خنق روح المحارب في ذاته وفي أفراد وحداته، وانتهج سياسات تنمّي «الوعي» أكثر من تنمية السلاح ونزعة القتال.
سوف تكون اللحى آقلّ انتشاراً في الجيش، مقابل تعزيز نسبة الذكور إلى الإناث، وتوطيد اللياقة البدنية الذكورية، وسيقلع العسكر عن سخافة التعبّد للتغيّر المناخي مقابل صلاة شهرية مسيحية خلال العمليات. وعلى الجيش أن يفكّر بالحاضر وكأنه في سنة 1990، أي إلى حقبة ما قبل الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، هذه المسؤولة عن «نعومة وضعف الأولويات الأخرى القتالية»…
وأياً كانت مقادير الجدّ أو الهزل في هذا التوجّه، الذي يبدو للوهلة الأولى أقرب إلى الاتساق مع نظرات ترامب الشعبوية ذاتها بصدد الجيش والتربية والسياسة والحرب والسلام والمجتمع عموماً؛ فإنّ أياً مما يُستحدث من «عقائد»، لدى إدارة جمهورية أو أخرى ديمقراطية، لن يبدّل الكثير في النواظم العقائدية الكبرى للجيش الأمريكي، إذا صحّ أن أيّ تغيير يمكن أن يطرأ بالفعل.
ومنذ أن تقادم وانطوى تحذير دوايت آيزنهاور، خلال خطبة الوداع مطلع كانون الثاني (يناير) 1961، من هيمنة «المجمّع الصناعي/ العسكري» على علاقة
الولايات المتحدة بذاتها وبالعالم خارج المحيط؛ فإنّ تلك الهيمنة ليست قائمة وراسخة ومكينة فحسب، بل هي حاكمة أيضا وصانعة سياسات وقرارات و«عقائد». وبين آيزنهاور الجنرال التي أثقلت النجوم كتفيه وقاد الحلفاء إلى النصر في الحرب العالمية الثانية، وترامب الذي لم يخض حرباً ويواصل التكاذب حول إطفاء الحروب بينما لا يتوقف عن صبّ الزيت على نيرانها هنا وهناك؛ ثمة ذلك الرسوخ القديم المتجدد في نهج البنتاغون الجيو ـ سياسي الستراتيجي، حيث لا تبديل إلا نحو الأشدّ عسكرة وعنفاً.
ولعلّ المعايير الحاكمة والحاسمة خلف نهج البنتاغون، سواء اتخذ صفة «الدفاع» أو «الحرب»، تظلّ ثابتة في وثيقة أساسية حملت عنوان «استراتيجة الدفاع الوطني للولايات المتحدة»؛ كانت قد شكّلت نقلة واضحة في التخطيط بعيد المدى، بمنأى كافٍ بعيداً عن نهج الحرب الوقائية التي طبعت معظم خطط الدفاع الوطني بعد 11/9. وباختصار شديد: حيث كان خيار الحرب الوقائية يعتمد العمل العسكري، كوسيلة لـ «الدفاع الذاتي» ضدّ الدول المصنّفة «معادية» للولايات المتحدة؛ فإنّ الخيار الجديد سمح بالتدخل العسكري ضد الدول التي لا تشكل خطراً ملحوظاً أو ملموساً ضدّ أمريكا.
والوثيقة تحدد أربعة أنماط من الاخطار ضدّ الولايات المتحدة: 1) «التحديات التقليدية» التي تقترن بقوى عسكرية معروفة تستخدم أشكالاً من الحرب مفهومة تماماً؛ و2) «التهديدات غير المألوفة»، التي تأتي من قوى تستخدم ما يسمّى طرائق غير تقليدية في مواجهة قوّة مضادة أقوى؛ و3) «التحدّي الكارثي»، ويتصل باستخدام العدو لأسلحة الدمار الشامل و4) «التحدّي التقويضي» الذي يأتي من قوى تستخدم تكنولوجيا متطورة لمواجهة التفوّق الأمريكي.
موقع القوّة النسبي الذي تتحلّى به سوف يتآكل أكثر فأكثر
في المقابل، وبالتوازي على نحو أو آخر، كان تقرير حكومي أمريكي، أعدّه مجلس الاستخبارات القومي، وهو الجهة المعنية بوضع صانعي السياسات في صورة الأخطار التي تنتظر قراراتهم؛ قد استخلص أنّ توازن القوّة القادم في ميدان الاقتصاد سوف ينتقل إلى آسيا (الصين والهند خصوصاً) حيث ستزداد نسبة النموّ 80٪ قياساً على العام 2000، الأمر الذي سيجبر واشنطن على إعادة النظر في أولويات سياساتها الراهنة الخاصة بأوروبا والشرق الأوسط.
صحيح أنّ أمريكا سوف تظلّ القوّة الكونية الأعظم، إلا أنّ «موقع القوّة النسبي الذي تتحلّى به سوف يتآكل أكثر فأكثر» حسب التقرير. وبالطبع، ثمة تأكيد على العامل الأهمّ ربما: «الإسلام السياسي، بصفة خاصة، سوف يكون له تأثير كوني ملموس على امتداد الفترة حتى 2020، وسيلمّ شمل المجوعات الإثنية والقومية المتباعدة، ولعله سوف يخلق سلطة تتجاوز الحدود القومية».
والتقرير يستبطن أربعة سيناريوهات كونية: «عالم دافوس»، نسبة إلى المنتجع السويسري حيث يُعقد سنوياً المنتدى الشهير وأهمّ محفل لاقتصاد السوق؛ و«السلام الأمريكي»، حيث ستضطرّ واشنطن إلى قيادة أوروبا والشرق الأوسط وآسيا، قسراً ودون إجماع دولي؛ و«الخلافة الجديدة»، حين ستمتدّ موجة إسلامية راديكالية تشمل العالم المسلم بأسره، بما يعنيه ذلك من آثار مباشرة على اتجاهات العولمة بصفة خاصة؛ وأخيراً، سيناريو «دورة الخوف»، التي ستنجم عن اتساع نطاق أسلحة الدمار الشامل وبلوغها أيدي الإرهاب.
التاريخ من جانبه يسجّل عجز الخلاصات وفشل السيناريوهات وإخفاق العقائد في الحيلولة دون ما أصاب الجيش الأمريكي من هزائم صريحة بعيدة المدى، وانتكاسات تكتيكية قريبة العواقب وأخرى ستراتيجية جيو ـ سياسية كارثية الآثار؛ في العراق وأفغانستان ضمن أمثلة مباشرة صريحة، وفي ليبيا وسوريا ضمن أخرى أقلّ وضوحاً، وفي قطاع غزة واليمن وإيران، ثمّ هنا وهناك حيث أشكال التدخل «الخفيفة» و«المتوسطة» و«الثقيلة» طبقاً لرطانة البنتاغون. ميزانية وزارة الحرب الراهنة تتجاوز أيّ رقم حلم به الصقور، أو خشي منه الحمائم، في أيّ ملفّ يخصّ الهيمنة العسكرية الأمريكية؛ خاصة خلال النصف الأوّل من رئاسة ترامب الثانية، حين يجري تخفيض ميزانية وزارة الخارجية و«الدبلوماسية الناعمة»، وتتضخم أكثر فأكثر ميزانية البنتاغون وإذكاء نيران الحروب والإبادة الجماعية.
الأطرف في هذه السياقات ليس التندّر على جنرالات أمريكا من جانب ترامب ووزير حربه، بقدر إصرار «دائرة الدفاع» DoD، التي لم يتبدل اسمها بعد، على التمسك بسيناريوهات تعبوية وقتالية ولوجستية تمّ اعدادها قبل أربعة عقود على الأقل لمواجهة… حلف وارسو؛ الآن، بالذات، حين انضمّت معظم دول ذلك الحلف البائد إلى النادي الأطلسي. ليست أقلّ طرافة، بمعنى استغفال العقول هذه المرّة، أنّ الدائرة تواصل إشاعة المناخات الوردية حول «انتصار القِيَم الأمريكية»؛ هذه التي يعرف الجنرالات والأدميرالات، قبل سواهم، أنها تنتقل من خسوف إلى كسوف!
القدس العربي