اللقاء بين الرئيس السوري الانتقالي أحمد
الشرع ومحاوره دافيد بيترايوس، على هامش قمة كونكورديا العالمية في نيويورك، كان (في أكثر من وجهة واحدة حمّالة دلالات) بمثابة متابعة ملحقة، أو متأخرة 22 سنة ونيف، بين «أبو محمد الجولاني» المجاهد في صفوف جهاديين نفروا لقتال الاحتلال الأمريكي في العراق؛ ودافيد بيترايوس، الجنرال في القوات الأمريكية المحتلة خلال الحقبة ذاتها، والآمر بزجّ الجولاني في سجون اليانكي طوال خمس سنوات.
هي مفارقة إذن، صارخة وحافلة بالمغزى في جانب أوّل، خاصة وأنها تنعقد في نيويورك على هامش مؤتمر رفيع للأعمال والاستثمارات الكبرى، وليس في أي مؤتمر سياسي أو عسكري أو أمني؛ الأمر الذي لا يمنع، بل يحرّض بالأحرى، على النظر إليها كواحدة من كبريات التحوّلات التي تعكس مكر التاريخ.
فلم يكن تفصيلاً عابراً أن يلجأ بيترايوس (راغباً، أو خاضعاً لبروتوكولات الحوار حسب قمة كونكورديا) إلى استخدام تعبير «السيد الرئيس» في مخاطبة الشرع؛ أو، في التفصيل الآخر الأكثر إثارة ربما، أنّ الجنرال المتقاعد/ مدير المخابرات المركزية الأمريكية لاحقاً، سوف يسأل المجاهد السابق كيف تمكّن عسكرياً من تحقيق ذلك الانتصار الخاطف في حلب، وأكمل الزحف إلى العاصمة دمشق، وصولاً إلى إسقاط نظام خَبِر الجنرال مشاقّ مخاصمته مثل مراضاته.
وليس أوّل أغراض هذه السطور استعراض الحوار بين الرجلين، رغم ما احتوى عليه من نقاط كثيرة متشعبة، لافتة وكاشفة وعالية التحريض على التفكيك التحليلي واستخلاص العِبَر والدروس؛ فلهذا مقامات أخرى، ومناسبات لا ريب في أنها سوف تتعاقب وتتكاثر. الغرض الأبرز، في المقابل، هو تلمّس تحولات بيترايوس نفسه، ليس على صعيد شخصي يخصّ الجنرال المتقاعد فحسب، وإنما في مستويات أهمّ تخصّ تحوّلات (لأنها، أيضاً، تقلبات) موقف الإدارات الأمريكية من ملفات نظام «الحركة التصحيحية» عموماً، وانتفاضة 2011 خصوصاً. وثمة بُعد إضافي جدير بالإشارة في هذا التشابك، هو أنّ نظرة البنتاغون والمخابرات المركزية لم تكن دائماً على تطابق كافٍ مع نظرة البيت الأبيض والدبلوماسية الأمريكية.
فقبل أن يتسلم مهام منصبه الرفيع، على رأس القيادة المركزية للقوات الأمريكية في الشرق الأوسط إضافة إلى الباكستان وأفغانستان، كان بيترايوس قد قضى 15 شهراً على رأس قيادة القوات الأمريكية العراق، اشتهر خلالها بأسلوبه الخاص في إدارة المواجهة مع مختلف الفئات المسلحة التي تناهض الاحتلال. ومنذ احتلال العراق وحتى مغادرة موقعه هناك، كانت تلك المجابهات قد أوقعت خسائر بشرية في صفوف الأمريكيين بلغت 4150 قتيلاً وأكثر من 30 ألف جريح.
أسلوب بيترايوس اعتمد على ما سُمّي بـ «الاندفاعة»، أي الزيادة الملموسة في معدّل العمليات العسكرية المباشرة للقوّات الأمريكية في المواقع الساخنة تحديداً، واستقدام 20 ألف عسكري أمريكي جديد، ونشر خمسة أفواج جديدة في بغداد بشكل خاصّ؛ وهذا ما وافق عليه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن وأعلن عنه في خطاب متلفز مطلع العام 2007. والنجاح الظاهر لتلك العمليات جلب على
بترايوس المديح من قادة الحزبين الجمهوري والديمقراطي معاً، فتحدّث بوش والمرشح الجمهوري جون ماكين عن إحراز «انتصار»، وتحدّث باراك أوباما عن «نجاح الاندفاعة بشكل فاق أشدّ أحلامنا جرأة».
لكنّ الجنرال نفسه كان يعرف، ربما أفضل من الجميع، زيف ذلك «الانتصار» وحدود «النجاح» الذي أنجزته عمليات الاندفاعة؛ خاصة حقيقة أنّ العمليات بدأت وسط تهدئة عالية وغير مسبوقة في المواجهات بين الشيعة والسنّة، نجمت أساساً عن خروج الشيعة ظافرين من حرب بغداد، وسيطرتهم على ثلاثة أرباع العاصمة. السبب الثاني كان حرص إيران، القطب الثاني الأقوى في العراق بعد
الولايات المتحدة، على التهدئة وإظهار حليفها رئيس الوزراء العراقي يومذاك، نوري المالكي، بمظهر رجل الدولة المسيطر والقابض على زمام الأمور.
ولهذا كان بيترايوس واضحاً في خطبة الوداع، ساعة تسليم المنصب إلى خليفته الجنرال راي أودييرنو، فقال إنّ الحرب هنا «ليست من طراز الصراع الذي يتيح لك أن تستولي على تلّة، فترفع عليها العلم، وتعود إلى الوطن للمشاركة في استعراض النصر… إنها ليست حرباً ذات شعار بسيط». وأضاف أنه حين تولى القيادة، وصف الوضع بأنه «صعب ولكنه ليس بلا أمل»، واليوم يقول إنه «صعب ويدعو إلى الأمل». وكان لافتاً أنّ خليفته ردّ بالقول: «ينبغي أن ندرك أنّ المكاسب التي تحققت ما تزال هشّة وقابلة للانقلاب عكساً».
وهكذا، حين غادر بترايوس، بقي العراق أحد أخطر بلدان العالم، حيث تُخاض على أرضه ثلاث حروب في آن معاً: حرب المجموعات والعشائر السنية ضدّ الاحتلال العسكري الأمريكي، وحرب المجموعات الشيعية (التي كانت تشكل 60٪ من عدد السكان، وتتحالف مع أكراد الشمال) للسيطرة على العراق وانتزاعه من السنّة، والحرب الخفية بين الولايات المتحدة وإيران والتي تخوضها فئات داخلية وأخرى خارجية أيضاً. وفي قلب تلك الحروب اندلعت سلسلة من المواجهات المعقدة المرتبطة بها، والتي تصبّ المزيد من الزيت على النيران المشتعلة أصلاً.
بعد نجاح الاندفاعة الباهر حسب تقديرات أمريكية رسمية، أو فشلها الذريع طبقاً لآراء أخرى مستقلة أمريكية بدورها؛ تورط بيترايوس في الملفّ السوري عبر إشكالية تسليح المعارضة السورية «المعتدلة»، صحبة أمثال هيلاري كلنتون وزيرة الخارجية، وليون بانيتا وزير الدفاع، وبترايوس من موقعه في إدارة مدير المخابرات المركزية. كان ذاك هو البرنامج الذي اعتمده الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما في نيسان (أبريل) 2013، وتمّ تنفيذ بعض مراحله عبر التنسيق مع الأردن وتركيا؛ قبل أن يتراخى تدريجياً، ثمّ يُجمّد عملياً، ويُطوى نهائياً.
وكانت نقاشات حامية قد نشبت داخل إدارة أوباما حول المسألة، بين رافضين للخطوة أو مشككين في جدواها (كانوا أقلية، ولكنّ الرئيس في عدادهم)؛ ومتحمسين لها، دون الارتقاء بها إلى مستوى «ستراتيجية مخرج» تنتهي إلى إسقاط نظام بشار الأسد. ذلك دعا أوباما إلى تكليف المخابرات المركزية بإعداد «مراجعة» لتجارب التسليح السابقة، في جغرافيات أخرى، والإجابة على السؤال الحاسم: هل نجحت، إجمالاً؛ وهل ستنجح في
سوريا، بصفة خاصة؟
مقاربة المخابرات المركزية، ومديرها بترايوس نفسه، لم تخرج عن ثنائية تقليدية كسيحة وخاوية الوفاض؛ مفادها حجب السلاح النوعي عن «المعتدلين» في صفوف المعارضة المسلحة، بينما واصل «الراديكاليون» التسلّح بطرق شتى، واجتذبوا المقاتلين بسبب هذا الإغراء الجوهري أوّلاً. كذلك لجأت لجأت واشنطن إلى الإجراء الكلاسيكي، والكاريكاتوري، المتمثل في وضع «جبهة النصرة» على اللائحة الأمريكية للإرهاب، فارتفعت شعبية «النصرة»، وتكشف المزيد من المكوّنات الظلامية في خطابها، واستقوت على سواها.
وسرعان ما افتُضحت التلميحات إلى أنّ أجهزة البنتاغون والمخابرات الأمريكية تتردد في إيصال الأسلحة النوعية خشية وقوعها في أيدي «المتشددين»، واتضح أنّ مضامينها الخافية، الفعلية والحقيقية، تتلخص في خشية أمريكا من إلحاق الأذى بأمن دولة الاحتلال الإسرائيلي. وكان هذا، وحده وفي ذاته، سبباً جيداً كي تتعاطف الجماهير مع «المتشددين»، الأمر الذي انتهى إلى تهميش «المعتدلين»، غنيّ عن القول!
بذلك فإنّ سؤال بيترايوس عن سرعة نجاح الشرع وفصائله في إسقاط النظام عسكرياً، يتجاوز بكثير فضول الجنرال المتقاعد أمام المجاهد السابق؛ مثلما يذهب أبعد من حدود المفارقة ومكر التاريخ؛ ويقترب، استطراداً، من حوافّ الإقرار بفشل ستراتيجية عسكرية/ سياسية أمريكية تجاه سوريا، بدأت مكبّلة بواجبات خدمة دولة الاحتلال، وتواصلت ركيكة خرقاء، لا تنفع معها مراجعة تأخرت 22 سنة!
القدس العربي