لم يكن ما
جرى في
مصر بعد انقلاب تموز/ يوليو 2013 مسارا عشوائيا ولا أخطاءَ حكمٍ قابلة للإصلاح،
بل بدا -في نتائجه وتتابعاته- مشروعا متكامل الأركان لتجريد الدولة من عناصر قوتها
الاستراتيجية، بدءا بالإنسان، مرورا بالاقتصاد، وانتهاء بالموقع والدور الإقليمي. وما
يُقدَّم اليوم في كتاب وزارة الخارجية تحت عنوان "الاتزان الاستراتيجي في عهد
السيسي" ليس توصيفا لواقع مُتحقق، بل محاولة متأخرة لإعادة تسمية الفشل والتفريط
والتبعية باسمٍ أنيق.
البداية كانت
من الداخل؛ حين جرى تحييد المجتمع بالكامل عبر السجون والقتل والتشريد وتجفيف المجال
العام، لم يكن الهدف "الاستقرار"، بل كسر أي ظهير شعبي يمكن أن يقيّد القرار
السياسي أو يحاسبه. الدولة التي تُفرغ من شعبها الحر، تفقد تلقائيا أهم ركائز أمنها
القومي، لأن الأمن لا يُبنى بالمدرعات فقط، بل بالرضا العام، والثقة، والمشاركة. بعد
هذه المرحلة، أصبح القرار المصري بلا سند شعبي حقيقي، وقابلا للتوجيه من الخارج.
الدولة التي تُفرغ من شعبها الحر، تفقد تلقائيا أهم ركائز أمنها القومي، لأن الأمن لا يُبنى بالمدرعات فقط، بل بالرضا العام، والثقة، والمشاركة. بعد هذه المرحلة، أصبح القرار المصري بلا سند شعبي حقيقي، وقابلا للتوجيه من الخارج
هنا بدأ الدور
الوظيفي؛ تدفّقت الهبات والمنح والأموال السياسية من الإمارات والسعودية، لا لبناء
اقتصاد منتج أو تنمية بشرية، بل لتثبيت سلطة ما بعد الانقلاب مقابل إقصاء الداخل الإسلامي
والوطني. ومع مرور الوقت، تحوّل الدعم إلى أداة ارتهان، لا يستطيع النظام معها اتخاذ
قرار استراتيجي مستقل دون مراعاة مصالح من منحوه "
شرعية ما بعد الانقلاب".
الاتزان الحقيقي يفترض استقلال القرار، لكن ما جرى كان نقل مركز القرار من القاهرة
إلى عواصم التمويل.
ثم جاء ملف
النيل، أخطر ملفات
الأمن القومي المصري عبر التاريخ. في هذا الملف لم نرَ اتزانا، بل
تفريطا كاملا انتهى بفرض الأمر الواقع الإثيوبي، وتشغيل السد دون اتفاق ملزم، ووصول
مصر فعليا إلى حافة الفقر المائي. لم يكن العجز تفاوضيا فقط، بل سياسيا، لأن الدولة
المثقلة بالديون، الخاضعة للتمويل الخارجي، لا تملك أدوات الضغط ولا الجرأة على التصعيد.
الثمن دُفع، لكن ليس لصالح مصر، بل على حساب مستقبلها المائي والغذائي.
وفي فلسطين،
سقط القناع كليا. لم تعد القضية "وساطة"، بل مشاركة غير مباشرة في الحصار؛
إغلاق معبر رفح، والتحكم في دخول المساعدات، وتحويل الإغاثة إلى ورقة ابتزاز سياسي
وأمني، ثم الترتيب اليومي لإعادة دمج نتنياهو في المشهد الدولي عبر لقاءات إقليمية..
كلها ممارسات لا يمكن وصفها بالاتزان. ما يجري هو إنقاذ سياسي للاحتلال في لحظة عزلته،
على حساب دماء غزة، وتاريخ مصر، ودورها العربي. ما حدث ويحدث ليس حيادا، بل انحياز
وظيفي ضد القضية الفلسطينية.
المشهد ذاته
تكرر في ليبيا؛ كثير من الضجيج، وخطوط حمراء لفظية، بلا نتيجة استراتيجية. انتهت ليبيا
إلى ساحة مفتوحة لقوى إقليمية ودولية، بلا نفوذ مصري حقيقي، وبحدود غربية قلقة، وسلاح
منفلت.
وفي السودان،
تُركت الدولة الشقيقة تنزلق إلى حرب أهلية مدمرة دون مبادرة استراتيجية حاسمة تحفظ
وحدة السودان أو تمنع تحوّله إلى خاصرة رخوة تهدد الجنوب المصري.
وفي سوريا،
انتقل الخطاب من رفض القتل والتدمير إلى التطبيع مع الأمر الواقع دون أي مقابل استراتيجي
حقيقي.
ليست المشكلة في خطأ تقدير هنا أو هناك، بل في منهج حكم كامل قام على تأمين السلطة لا تأمين الدولة، وعلى شراء الوقت بالديون لا بناء المستقبل، وعلى مقايضة الدور بالوظيفة
أما الاقتصاد،
فهو العنوان الأوضح للفشل. الديون الداخلية والخارجية بلغت مستويات غير مسبوقة في تاريخ
مصر، دون أن يقابلها بناء إنساني أو صناعي أو خدمي حقيقي؛ لا مدارس كافية، لا مستشفيات
محترمة، لا مصانع منتجة، لا زراعة مستقلة، بل مشاريع خرسانية بلا عائد اجتماعي، وبيع
منظم لأصول الدولة، والموانئ، والأراضي، والمرافق الاستراتيجية، تحت لافتة "الإصلاح".
الدولة التي تبيع أصولها لتسديد فوائد ديونها، دولة تُفكَّك لا تُدار.
ثم جاء الدور
الأوروبي؛ تحوّلت مصر إلى حارس حدود لأوروبا، تمنع الهجرة غير النظامية مقابل دعم سياسي
ومالي، في علاقة تُختزل فيها دولة بحجم مصر إلى وظيفة أمنية. هذا ليس اتزانا، بل اختزال
استراتيجي لمكانة الدولة ودورها.
حين نجمع هذه
المسارات معا، يتضح أن ما يُسمّى "الاتزان الاستراتيجي" لم ينتج أمنا، ولا
سيادة، ولا تنمية، بل أنتج دولة مثقلة بالديون، منزوعة الظهير الشعبي، فاقدة لأدوات
الردع، ومقيّدة القرار. وإذا كان الاتزان يُقاس بالنتائج، فالنتائج تقول إننا أمام
فشل استراتيجي شامل. وإذا قيس بالوظيفة، فنحن أمام نظام أدّى أدوارا تخدم ترتيبات إقليمية
ودولية على حساب المصلحة الوطنية.
ليست المشكلة
في خطأ تقدير هنا أو هناك، بل في منهج حكم كامل قام على تأمين السلطة لا تأمين الدولة،
وعلى شراء الوقت بالديون لا بناء المستقبل، وعلى مقايضة الدور بالوظيفة. لهذا لم يعد
السؤال: هل تحقق الاتزان الاستراتيجي؟ بل السؤال الحقيقي: كم بقي من الدولة قبل أن
يكتمل تفكيكها؟