كتاب عربي 21

مخاوف اللا مستقبل تخيم على الشارع في مصر

عبد الناصر سلامة
"على الرغم من حالة الضيق والغضب الشعبي، التي أشار إليها البرنامج الوثائقي، فقد طالب السيسي شعبه أخيرا بالاقتصاد في الطعام والشراب"- الأناضول
"على الرغم من حالة الضيق والغضب الشعبي، التي أشار إليها البرنامج الوثائقي، فقد طالب السيسي شعبه أخيرا بالاقتصاد في الطعام والشراب"- الأناضول
شارك الخبر
أسوأ ما يخيّم على تفكير المواطن المصري، خلال السنوات الإحدى عشرة الماضية من حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي، هو الخوف من المستقبل، بل الخوف من الغد القريب، ذلك أن حالة عدم الاستقرار النفسي تمثل عاملا مشتركا بين كل طوائف الشعب، فلا ضمانة للفقراء، ولا الأغنياء على حد سواء؛ الجميع في مهب الريح، قد تصدر قرارات هوجاء بالاستيلاء على أراضي ومساكن الفقراء، بهدف بيعها لمستثمر أجنبي، إماراتي بالدرجة الأولى، وقد تصدر قرارات بمصادرة أموال الأغنياء، أو تأميم ممتلكاتهم، بهدف سداد ديون الدولة الباهظة، وقد تصدر قرارات بإعلان الإفلاس، نتيجة تراكم الديون الداخلية والخارجية معا، والتي قد تتجاوز الآن النتائج المحلي السنوي.

يؤكد ذلك حجم هروب الاستثمارات والمستثمرين المصريين إلى الخارج خلال السنوات الماضية، خصوصا إلى المملكة المغربية، والمملكة السعودية، ودولة الإمارات، والعديد من الدول الأفريقية، على الرغم من حاجة الدولة إلى كل فلس أو سنت أجنبي، في الوقت الذي تبحث فيه، بشق الأنفس، عن مستثمرين أجانب وعرب، يعتبرهم الشعب في معظم الأحوال عملاء، باستثمارات صهيونية الأصل، تستهدف اختراق البلاد والعباد، لا أكثر ولا أقل، بشراء الأصول التاريخية والاستراتيجية بأبخس الأثمان، والعبث بمقدرات الدولة والتغلغل في مفاصلها.

كل المؤشرات تؤكد أن النظام في مصر لا يعير هذه الحالة الشعبية الساخطة أدنى اهتمام، بدليل الرفع المستمر للدعم عن البنزين والكهرباء والغاز، وصدور قانون العلاقة بين المالك والمستأجر فيما يتعلق بالمساكن القديمة، والرفع المستمر لأسعار السلع الاستراتيجية، والزيادات المتتالية على رسوم الوثائق والأوراق والمستندات الرسمية، ثم أخيرا إجراء الانتخابات البرلمانية، بهذا الشكل المهين لكرامة المواطن

وربما جاء البرنامج الوثائقي الأخير، الذي أعدته وبثته قناة "Arte" الفرنسية- الألمانية، بعنوان "السيسي فرعون مصر الجديد"، ليلقي الضوء على جزء ضئيل من الحالة المصرية الراهنة، ممثلة بشكل خاص في غياب فقه الأولويات لدى صانع القرار الأوحد، الذي آثر -على سبيل المثال- الإنفاق على تشييد قصور رئاسية لا حاجة بها ولا معنى لها، أو شراء طائرة رئاسية بقيمة نصف مليار دولار، على الاهتمام بالإنفاق على شعب جائع، عاطل، ساخط، في الوقت الذي لا يتوقف فيه عن الاقتراض والاستدانة، حتى بلغت الديون الخارجية نحو 160 مليار دولار، وما يماثلها ديونا داخلية، بالتزامن مع سياسات بيع لأي شيء وكل شيء.

وعلى الرغم من حالة الضيق والغضب الشعبي، التي أشار إليها البرنامج الوثائقي، فقد طالب السيسي شعبه أخيرا بالاقتصاد في الطعام والشراب، مشيرا إلى أن مصر دولة صحراوية، لا تستطيع إنتاج كل طعامها، وهو ما يناقض وعوده، منذ تسلم مقاليد الحكم، بالصبر عامين، ثم عاما واحدا، ثم ستة أشهر فقط، لتجاوز حالة الضنك والغلاء، قبل أن يتراجع عنها أخيرا بقوله: "إن تطور الشعوب يحتاج إلى مائة عام!"، وهو ما يشير إلى أن الأفق لا يحمل أي تطور إلى الأفضل، في ظل قيادته على أقل تقدير، ما زاد من حالة الاحتقان التي تتفاقم يوما بعد يوم.

الغريب في الأمر، هو أن كل المؤشرات تؤكد أن النظام في مصر لا يعير هذه الحالة الشعبية الساخطة أدنى اهتمام، بدليل الرفع المستمر للدعم عن البنزين والكهرباء والغاز، وصدور قانون العلاقة بين المالك والمستأجر فيما يتعلق بالمساكن القديمة، والرفع المستمر لأسعار السلع الاستراتيجية، والزيادات المتتالية على رسوم الوثائق والأوراق والمستندات الرسمية، ثم أخيرا إجراء الانتخابات البرلمانية، بهذا الشكل المهين لكرامة المواطن، سواء من حيث القائمة المطلقة، أو هيمنة لغة المال، أو التدخل السافر في اختيارات المترشحين وإرادة الناخبين، إلى غير ذلك من دلالات.

الخوف من الغد، كان سببا رئيسيا في هروب الشباب، بشكل خاص، من البلاد، إلى المجهول، عربيا وأوروبيا، إلى الحد الذي أصبحت فيه الهجرة أمل كل شاب وفتاة، حتى أن أكثر من نصف أطباء مصر، على سبيل المثال، (نحو 70 ألف طبيب) يعملون في الخارج الآن بحثا عن حياة أفضل، بينما معظم الأيدي العاملة الماهرة قد هربت مبكرا، في الوقت الذي يتزاحم فيه الشباب على أبواب السفارات للهجرة بشكل شرعي، وعلى مراكب السماسرة للهجرة غير الشرعية في آن واحد، في وقت توقفت فيه الدولة عن تعيين الخريجين، إلا ما ندر، وهو ما رفع من نسبة الجريمة، وتعاطي المخدرات، إلى غير ذلك من جرائم.

اللا مبالاة في الحالة المصرية بلغت حدا يثير الدهشة، ذلك أن البرنامج الوثائقي المشار إليه، لم يصدر بصدده أي رد فعل رسمي يدحضه أو ينفيه، في الوقت الذي اعتاد فيه الإعلام الرسمي سب وقذف المنتقدين، وكيل الاتهامات لهم طوال الوقت

وفي وقت تخشى فيه النخبة السياسية والثقافية من الحديث عن الوضع الراهن، حيث الاعتقالات لا تستثني أحدا، يُسمح بين الحين والآخر لأحد المنتمين للنظام، بالانتقاد تارة والتحذير تارة أخرى من استمرار الأوضاع بهذا الشكل المزري، فيما يشير إلى أنها عمليات مبرمجة، لا تزيد عن كونها امتصاص لحالة الغضب، فلا تغير من الوضع شيئا على أرض الواقع، مع تسريبات لا تتوقف عن الفساد هنا وهناك، وسوء استخدام السلطة، والرشاوى الجنسية، إلى غير ذلك مما كان يجب أن يمثل أولوية في المواجهة لدى القيادة السياسية، استجابة لتطلعات الشعب.

اللا مبالاة في الحالة المصرية بلغت حدا يثير الدهشة، ذلك أن البرنامج الوثائقي المشار إليه، لم يصدر بصدده أي رد فعل رسمي يدحضه أو ينفيه، في الوقت الذي اعتاد فيه الإعلام الرسمي سب وقذف المنتقدين، وكيل الاتهامات لهم طوال الوقت، وقد يكون أبسطها وأيسرها الاتهام بالانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين المحظورة، حتى أن هناك أقباطا محليين، وسياسيين ومشرعين أجانب، وجهت لهم التهمة نفسها، فيما يشير إلى فشل إعلامي كبير، يديره طابور طويل من غير المتخصصين، مع عدد من إعلامي كل العصور، الذين يفتقدون المصداقية.

على أية حال، من الطبيعي أن يراهن بعض المناهضين للنظام السياسي في مصر، على هذه الحالة من السلبية والخوف، بل واستغلالها، لإضعاف النظام، وهو ما نراه طوال الوقت على شاشات الفضائيات التي تبث من الخارج بشكل خاص، إضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي، بمختلف فروعها، من خلال كتائب إلكترونية واضحة، وقد أثمر هذا الرهان على أرض الواقع عن مزيد من الاحتقان، إلا أن الغريب في الأمر هو أن الدولة تواجه هذه الحالة بالسجون والمعتقلات، وإرهاب العامة والخاصة، بدلا من مواجهة الموقف بالعلاج الجذري، وإصلاح ذات البين، وهو ما يجعل من الحديث عن المستقبل حالة ضبابية مشتركة، حتى في صفوف الموالين للنظام، الذين تسبقهم ثرواتهم إلى الخارج، ويعرفون طريق الهروب حينذاك، كما هو حال شياطين كل الأنظمة القمعية.
التعليقات (0)