قضايا وآراء

من 17 ديسمبر 2010 إلى 17 ديسمبر 2025: كيف ضيّعت تونس سؤال الدولة.. وانشغلت بسؤال الحكم؟

نجيب العياري
"تركيز السلطة لم ينهِ القلق، بل تعمّق الخوف مع اتساع المحاكمات وغياب الثقة"- عربي21
"تركيز السلطة لم ينهِ القلق، بل تعمّق الخوف مع اتساع المحاكمات وغياب الثقة"- عربي21
شارك الخبر
في صباح 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010، لم يكن محمد البوعزيزي يفكّر في الدستور أو في شكل النظام السياسي. كان يفكّر في الكرامة. من تلك اللحظة، خرجت تونس من زمن الصمت إلى زمن الكلام، وانفتح المجال العام على مصراعيه. غير أنّ المفارقة التي تكشّفت مع مرور السنوات هي أنّ البلاد، بعد خمسة عشر عاما، لم تحسم سؤالا أعمق من شكل الحكم: كيف نحكم أنفسنا دون أن نضيّع الدولة؟

بين 2010 و2025، مرّت تونس بثلاث مراحل كبرى: الثورة، ثم الانتقال الديمقراطي، ثم التحوّل المؤسسي. وفي كل مرحلة تغيّر الخطاب، لكن الخلل الجوهري بقي واحدا: انشغال النخب السياسية والاجتماعية بسؤال من يحكم؟ بدل سؤال ماذا نفعل؟ وكيف نُنجز؟ ومن يتحمّل كلفة التحوّل؟

بعد سقوط نظام بن علي، ارتفع سقف التوقّعات بسرعة تاريخية، بينما بقيت الدولة، بإدارتها واقتصادها وماليتها، عاجزة عن مجاراة هذا الزخم. لم يكن ذلك خطأ أخلاقيا بقدر ما كان خللا بنيويا لم يُعالَج في حينه، فتحوّل تدريجيا إلى إحباط عام ثم إلى أزمة ثقة في المسار برمّته.

السؤال الذي يفرض نفسه على الجميع -سلطة ومعارضة، منظماتٍ اجتماعية وأعرافا- ليس: من يحكم؟ بل: بأي شروط نُنقذ الدولة، ونستعيد الثقة، ونحوّل السياسة من صراع على السلطة إلى قدرة على الإنجاز؟

خلال سنوات التعددية الأولى، تعلّم التونسيون السياسة بسرعة، لكنهم لم يتعلّموا بالوتيرة نفسها فنّ الحكم. وُلدت أحزاب كثيرة من رحم الاحتجاج لا من رحم الدولة، تجيد الخطاب والتعبئة، لكنها تعجز عن الإدارة والإنجاز. وفي المقابل، مارست المنظمات الاجتماعية ضغطا مشروعا دفاعا عن الحقوق، لكنه ظلّ في الغالب ضغطا بلا عقد اجتماعي جديد يوازن بين العدالة الاجتماعية والقدرة الاقتصادية. أما الإدارة، فاختارت الانتظار، بين نخب سياسية متصارعة ومجتمع يطالب بنتائج عاجلة.

جاء دستور 2014 بوعد ديمقراطي مهم، لكنه أرسى نظام توازنات سياسية أكثر مما أرسى نظام إنجاز. فغابت الإصلاحات الكبرى، لا لعدم ضرورتها، بل لارتفاع كلفتها السياسية. هكذا تحوّل التأجيل إلى سياسة عامة، وتراكمت الأزمات.

ابتداء من 2019، دخلت البلاد مرحلة انسداد شامل، زادته الجائحة حدّة. تغيّر سؤال المواطن: لم يعد يسأل عن طبيعة النظام، بل عن الدواء، والشغل، وقدرة الدولة. في هذا المناخ، أصبح المجتمع مستعدا للمقايضة بين الديمقراطية والنجاعة، ما مهّد الطريق لتحوّل 25 تموز/ يوليو 2021، الذي لم يكن سبب الأزمة بقدر ما كان نتيجة فراغ سياسي طويل.

غير أنّ تركيز السلطة لم ينهِ القلق، بل تعمّق الخوف مع اتساع المحاكمات وغياب الثقة، وبلغ ذروته مع عودة الحديث عن شغور منصب رئيس الجمهورية في ظل غياب المحكمة الدستورية. هنا لم يعد الخوف سياسيا فقط، بل وجوديا: دولة بقرار مركزي قوي، دون صمّامات أمان مؤسسية واضحة، تُنتج قلقا أعمق من القمع نفسه.

اليوم، تبحث تونس عن الفعالية، بينما ينتظر المجتمع النتائج. لكن الزمن لم يعد يسمح بتبادل الاتهامات، فالسلطة تُقاس بالإنجاز، لا بالنوايا. إنّ نافذة التدارك ما تزال مفتوحة، لكنّها لم تعد مفتوحة إلى ما لا نهاية.

والسؤال الذي يفرض نفسه على الجميع -سلطة ومعارضة، منظماتٍ اجتماعية وأعرافا- ليس: من يحكم؟ بل: بأي شروط نُنقذ الدولة، ونستعيد الثقة، ونحوّل السياسة من صراع على السلطة إلى قدرة على الإنجاز؟
التعليقات (0)

خبر عاجل