قضايا وآراء

إسلاميون في خدمة أهداف العلمانية

محمود صقر
"حين يعتلي خطيب الجمعة المنبر ليتحدث عن "الضوابط الشرعية للحرية"، ينظر الناس إليه متسائلين: وأين هي الحرية أصلا حتى نتحدث عن ضوابطها؟"- جيتي
"حين يعتلي خطيب الجمعة المنبر ليتحدث عن "الضوابط الشرعية للحرية"، ينظر الناس إليه متسائلين: وأين هي الحرية أصلا حتى نتحدث عن ضوابطها؟"- جيتي
شارك الخبر
إذا أخذنا تعريفا للعلمانية يرى أنها لا تعادي الدين، بل تدعو فقط إلى إبعاده عن تفاصيل الحياة العامة، ليبقى علاقة شخصية بين الإنسان وربه؛ فسوف نجد المفارقة في أن أعلى الإسلاميين صوتا في معاداة العلمانية، وأكثرهم تمسكا بمظاهر الدين، وتشددا في فهمه، هم أكثرهم تحقيقا لهدف العلمانية بعزل الدين عن حركة الحياة.

فعندما يطرح بعض الإسلاميين صورة للإسلام تتصادم مع فطرة الناس وتطلعاتهم، فإنهم من حيث لا يشعرون، يسيرون مع العلمانية يدا بيد لتطبيق هدفها بفصل الدين عن حركة حياة الناس.

ففي الجانب الاجتماعي، يتوسع بعض الإسلاميين في تطبيق قاعدة "سد الذرائع"، فيحولونها من قاعدة أصولية حكيمة لدفع الضرر عن المجتمع، إلى مبالغة في سد الأبواب بدعوى حراسة الدين وحماية المجتمع من الانحراف عن صحيح الدين، فكل انفتاح عندهم قد يفتح بابا للشر، وكل حرية قد تكون ممرا للفساد، وكل اجتهاد قد يكون مظنة للضلال، وهكذا يمسي المعنى الأصولي للقاعدة شبيها بالمثل الشعبي: "الباب الذي يأتيك منه الريح، سدّه واسترح".

نجد أن التضييق على الناس باسم الدين، والانكفاء داخل صورة جامدة للإسلام، يقودان في نهاية الطريق إلى تحقيق الهدف ذاته الذي تنادي به العلمانية: إبعاد الدين عن حياة الناس. والفرق أن العَلمانيّ يفعل ذلك عن قناعة ورؤية، بينما يفعله غلاة الإسلاميين بزعم حماية الدين

وبهذه النظرة يتحول الإسلام من رسالة حياة إلى منظومة خوف، ومن دينٍ قادرٍ على التعامل مع الواقع إلى عقيدةٍ تتوجس من الواقع وتنسحب منه.

وفي الجانب السياسي، يُقدَّم الإسلام تحت شعار "طاعة وليّ الأمر" بلا قيد ولا شرط؛ فتغدو الطاعة غطاء لإقصاء الدين عن الشأن العام. وهذا الخطاب، وإن بدا في ظاهره مناهضا للعلمانية الديمقراطية، إلا أنه في حقيقته يترجم أهم مقولاتها: "دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر".

فعندما يُختَزل الإسلام في الوعظ والعبادات، ويُمنَع من أن يكون صوتا ضد الظلم، أو قوة للإصلاح، أو ضميرا يراقب السلطة، فإننا عندئذ نعيد إنتاج الصورة التي تتمنّاها العلمانية للدين. ويغدو الإسلامي الذي يرفض "فصل الدين عن الدولة" هو ذاته من يمارسه فعليا حين يَخرس صوت الدين أمام تعسّف السياسي.

وفي الجانب التشريعي والحقوقي، يتعامل بعضهم مع الإسلام وكأنه مجموعة من القيود والحدود، فيغيب عن خطابهم ما يحمله الشرع الإسلامي من قيم العدل والرحمة، وما يؤسّسه من منظومة تحمي الإنسان: نفسه ودينه وعقله وعِرضه وماله. ويغفلون عن أن المقاصد العليا للشريعة تقوم على رعاية مصالح الناس، وأن كل موضع تتحقق فيه مصلحة الإنسان فثمّ شريعة الله.

وهكذا نجد أن التضييق على الناس باسم الدين، والانكفاء داخل صورة جامدة للإسلام، يقودان في نهاية الطريق إلى تحقيق الهدف ذاته الذي تنادي به العلمانية: إبعاد الدين عن حياة الناس. والفرق أن العَلمانيّ يفعل ذلك عن قناعة ورؤية، بينما يفعله غلاة الإسلاميين بزعم حماية الدين.

وبينما العلمانية ليست في خطر من الإسلاميين الغلاة، فإن الإسلام نفسه هو الذي يتعرض لخطر تعطيله وتجميده باسم الغيرة عليه.

وحين يعتلي خطيب الجمعة المنبر ليتحدث عن "الضوابط الشرعية للحرية"، ينظر الناس إليه متسائلين: وأين هي الحرية أصلا حتى نتحدث عن ضوابطها؟ أليس الأولى أن نطالب بها بدلا من تخويف الناس منها؟

ولذلك فلا عجَب عندي على الإطلاق من هذا التصالح بين الأنظمة العلمانية -سواء الغربي منها أو المنتمي للدول الإسلامية- مع الاتجاهات المتشددة في تطبيق الإسلام، ومعاداتهم العنيفة لأي اتجاه جاد وعملي في طرح الإسلام نموذجا عمليا حضاريا حيا لقيادة المجتمع.
التعليقات (0)

خبر عاجل