مدونات

ماذا لو تم القضاء على المقاومة؟

محمود صقر
"هل سيكون إيذانا بميلاد جيل جديد يقلب الموازين؟"- الأناضول
"هل سيكون إيذانا بميلاد جيل جديد يقلب الموازين؟"- الأناضول
الشعوب العربية اليوم تتابع ما يجري في فلسطين عبر الشاشات، بين متألم من عجزه وبين لا مبالٍ، بينما يرون شعوبا حرة في مشارق الأرض ومغاربها يخرجون إلى الشوارع، يعبرون عن رفضهم لجرائم الإبادة الجماعية التي تجري في فلسطين، ويشاهدون كيف يتحول مهرجان البندقية السينمائي إلى تظاهرة للغضب من الأعمال الصهيونية الإجرامية في فلسطين، بينما المهرجانات الفنية العربية غارقة في غيبوبة الترفيه.

مشهد العجز العربي يبعث الطمأنينة في نفوس الأعداء، ويؤكد لهم نجاح خططهم في إخماد روح المقاومة. والآن، يُهيئون الساحة للتخلص من آخر بؤرة مقاومة في فلسطين.

فهل سينجحون؟ وهل سيكون ذلك إعلانا بانكسار الشعوب العربية والإسلامية وخضوعها للمشروع الصهيوني الغربي، أم سيكون إيذانا بميلاد جيل جديد يقلب الموازين ويجعل الأعداء يترحمون على جيل المقاومة الحالي؟

الانغماس في هول اللحظة الراهنة قد يعمي البصيرة، فيستسلم الإنسان لليأس والتيه. ويبقى كذلك ما لم تتسع مداركه وتنفرج زاوية رؤيته، ويعلُ على حاضره ليرى الصورة الكلية لأحداث زمانه كحلقة من حلقات تاريخ البشرية، ويعلم أنه مجرد حلقة صغيرة في طريق طويل، وواجبه في الحياة ألا تنقطع سلسلة المسير عند حلقته هو

في زمن الشريف الرضي (359م/ 406هـ)، الشاعر والفقيه ونقيب الأشراف، كان الطغاة يتربصون بكل شريف يرفع رأسه في وجه الظلم، فأطلق حكمته الباقية في بيتين من الشعر:

إِذا أَنـتَ أَفنَيـتَ العَـرانيــنَ وَالـذُرى     رَمَتكَ اللَيالي عَن يَدِ الخامِلِ الغِمرِ
وَهَبكَ اِتَّقَيتَ السَهمَ مِن حَيثُ يُتَّقى     فَمَن لِيَدٍ تَرميكَ مِن حَيثُ لا تَدري

أي: إن ظننتَ أنك بالقضاء على أشراف الناس قد ضمنت بقاءك، فستأتيك نهايتك على يد من لا تتوقع، ومن حيث لا تحتسب.

وهذه سنّة مطردة في التاريخ: كم من طاغية أفنى كل شريف يتوقع منه الخطر، فإذا نهايته تأتيه من أقرب الناس إليه، كما حدث ليوليوس قيصر حين أتته الطعنة من "بروتس" أخلص خلصائه، فصاح وهو يتجرع ألم المفاجأة والدهشة: "حتى أنت يا بروتس"!

وكم من مصيبة حلت بأمة الإسلام حسبها أهل زمانها نهاية العالَم، كما حدث يوم اجتاح المغول العالم الإسلامي، وما هي إلا سنوات حتى اكتشفت الأجيال اللاحقة أن هذا الدمار أتى ليزيل دولا وشعوبا انتهت صلاحيتها للبقاء، فكانت كورق الخريف الذي يسقط ليفسح المجال لأوراق الربيع، وظهرت أجيال حملت الراية من جديد، وفي سنوات قليلة في عمر الزمن ذاب المغول في حضارة الإسلام، وأصبح الصليبيون يترحمون على أيام صلاح الدين الأيوبي ورحمته وعدله، بعد أن رأوا بأس الظاهر بيبرس وسيفه وبطشه، وبطولات السلطان قلاوون الذي استكمل تطهير بلاد الشام من آخر معاقل الصليبيين، ثم تحَوَّل الهجوم الصليبي إلى دفاع على يد الدولة العثمانية التي غزت أوروبا في عقر دارها ووصلت لحصار فيينا.

إن مسيرة التاريخ مليئة بالطغاة الذين ظنوا أن الأرض ستدين لهم إذا أفنوا أشراف الناس، لكنهم سقطوا من حيث لم يحتسبوا، وأتت أجيال جديدة مشبعة بالقهر والغضب واستردت حقوقها من يد الطغاة.

غير أن الانغماس في هول اللحظة الراهنة قد يعمي البصيرة، فيستسلم الإنسان لليأس والتيه. ويبقى كذلك ما لم تتسع مداركه وتنفرج زاوية رؤيته، ويعلُ على حاضره ليرى الصورة الكلية لأحداث زمانه كحلقة من حلقات تاريخ البشرية، ويعلم أنه مجرد حلقة صغيرة في طريق طويل، وواجبه في الحياة ألا تنقطع سلسلة المسير عند حلقته هو.

وتبقى حكمة التاريخ ناطقة بأن الذين قاوموا ربما أثخنتهم الجروح ولكنهم عاشوا، وأما الذين استسلموا ماتوا، وإن ظلوا على قيد الحياة.
التعليقات (0)