تشهد محافظة حضرموت شرقي
اليمن تطورات ميدانية متسارعة منذ مطلع ديسمبر/ كانون الأول الجاري، أدت إلى تحوّل جوهري في خريطة السيطرة داخل المحافظة التي تمثل أكثر من 40 بالمئة من مساحة البلاد.
وتسيطر القوات الموالية للحكومة اليمنية في وادي حضرموت، ومركزه مدينة سيئون، مع حضور بارز لحلف قبائل حضرموت بقيادة الشيخ عمرو بن حبريش، المطالب بإدارة ذاتية موسعة للمحافظة.
ويخضع ساحل حضرموت، ومركزه مدينة المكلا، لنفوذ القوات الموالية للمجلس الانتقالي الجنوبي، رغم تبعية الإدارة للمجلس الرئاسي.
وتعود شرارة التوتر إلى منتصف تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، حين اندلعت اشتباكات في منطقة غيل بن يمين جنوب غربي الوادي بين حلف قبائل حضرموت ومسلحين محسوبين على الانتقالي الجنوبي، وتواصلت التطورات بسيطرة مسلحي قبائل حضرموت على موقع شركة المسيلة للنفط، لمنع ما قالوا إنه مخطط للقوات الموالية للانتقالي للتقدم نحو وادي حضرموت.
ورغم توقيع اتفاق تهدئة برعاية سعودية بين السلطات المحلية وحلف القبائل، تحركت قوات الانتقالي بسرعة لبسط سيطرتها على الوادي، بما في ذلك مقر المنطقة العسكرية الأولى، ومطار سيئون، والقصر الجمهوري.
وامتد نفوذ الانتقالي لاحقا إلى مواقع الشركات النفطية عبر قوات "النخبة الحضرمية" الموالية له.
وبعد يوم واحد فقط، أعلن
المجلس الانتقالي في محافظة المهرة، شرقي اليمن، سيطرته على مواقع عسكرية وأمنية ومرافق حيوية، بينها مطار الغيضة ومنفذ شحن الحدودي مع سلطنة عمان، رغم تأكيد السلطات المحلية وجود تفاهمات بينها وبين القيادة السياسية، وأن الأوضاع "طبيعية" في عموم المهرة.
حضرموت.. ثقل جغرافي واقتصادي في قلب الصراع
تُظهر الأحداث أن محافظة حضرموت، الواقعة في قلب الصحاري الواسعة شرق اليمن، تمثل واحدة من أخطر عقد الصراع في المنطقة، إذ يختبئ في هذه الجغرافيا الشاسعة ملف يملك القدرة على تغيير مستقبل اليمن وربما إعادة رسم خريطة النفوذ في جنوب شبه الجزيرة العربية بأكملها.
اظهار أخبار متعلقة
وشكلت حضرموت خلال السنوات الماضية جزيرة هادئة نسبيا وسط عاصفة الحرب اليمنية، قبل أن تتسارع الأحداث وتدفع بالمحافظة إلى حافة الانفجار.
وتعد حضرموت أكبر محافظات اليمن، إذ تشكل نحو ثلث مساحة البلاد، وتضم حقولا غنية بالنفط والغاز تقدر بمليارات الدولارات، إلى جانب موانئ مطلة على بحر العرب وحدود برية واسعة مع
السعودية.
وتشير تقارير إلى أن قطاع النفط والغاز هو أهم مصادر دخل الحكومة اليمنية الشرعية، ويساهم بما بين 60 و70 بالمئة من إيرادات الدولة، فيما تأتي حضرموت وشبوة المجاورة في طليعة المحافظات المنتجة للنفط، وبذلك، تمسك الجهة المسيطرة على حضرموت بجزء حيوي من شريان الاقتصاد اليمني.
وظلت حضرموت لفترة طويلة تحت سلطة الحكومة اليمنية المعترف بها دوليا والمدعومة من السعودية، غير أن الواقع على الأرض كان أكثر تعقيدا، مع توزع النفوذ بين قوى محلية، أبرزها القبائل.
وبدأ المشهد يتغير بشكل أوضح في الآونة الأخيرة، عندما أصدر "حلف قبائل حضرموت" بيانا في آذار/ مارس الماضي أعلن فيه سيطرة قواته على منشآت نفطية في المحافظة، مبررا ذلك بأنه خطوة للدفاع عن "الثروات الوطنية" وحمايتها من أي تدخل خارجي.
حلف قبائل حضرموت والمجلس الانتقالي.. صراع نفوذ محلي
يمثل "المجلس الانتقالي الجنوبي" الطرف المقابل في المعادلة، وهو كيان سياسي وعسكري يسعى لانفصال جنوب اليمن، بما فيه حضرموت، عن الشمال.
ويحظى المجلس بدعم من دولة
الإمارات، وتقاتل القوات الموالية له تحت مسمى "قوات النخبة الحضرمية"، التي أنشأتها أبوظبي عام 2016 بدعوى محاربة تنظيم القاعدة.
وفي المقابل، يشكل "حلف قبائل حضرموت" تحالفا قبليا واسعا يقوده عمرو بن حبريش، الذي يشغل أيضا منصب الوكيل الأول لمحافظة حضرموت.
وتأسس الحلف عام 2013، ويعتبر نفسه الممثل الشرعي لمصالح أبناء حضرموت في مواجهة أي محاولات لفرض مشاريع خارجية عليهم، بما في ذلك مشروع الانفصال الذي يدعمه المجلس الانتقالي.
ويرى الباحث أحمد ناجي، كبير المحللين في مجموعة الأزمات الدولية، أن الحلف يعتبر الحكومة اليمنية الحالية عاجزة عن مواجهة المجلس الانتقالي، بل باتت تعمل داخل نطاق نفوذه، ما دفع القبائل إلى محاولة فرض أمر واقع جديد على الأرض.
ويقف المشهد اليوم بين قوتين رئيسيتين: قبائل حضرموت، التي تمثل هوية حضرمية مستقلة وتعلن ولاءها للحكومة الشرعية المدعومة من السعودية، من جهة؛ و"النخبة الحضرمية" التابعة للمجلس الانتقالي والمدعومة إماراتيا، الساعية لتحقيق انفصال الجنوب، من جهة أخرى، ويشكل الاحتكاك المتزايد بين الطرفين شرارة تهدد بإشعال الوضع في أي لحظة.
تنافس سعودي إماراتي على العمق الاستراتيجي
يوضح د. داوود الأنصاري، الخبير في شؤون الطاقة والخليج ورئيس مركز مجلس مجن الفكري، أن الصراع في حضرموت يجب فهمه في إطار التنافس المتصاعد بين السعودية والإمارات خلال السنوات الأخيرة، وهو نمط مستمر منذ نحو عقد، تجلى بوضوح في سلوك الوكلاء المحليين للطرفين داخل اليمن.
اظهار أخبار متعلقة
وتستمد السعودية اهتمامها بحضرموت من كونها عمقا استراتيجيا لها، إذ تمتلك المحافظة حدودا برية طويلة مع المملكة من جهة الربع الخالي، إضافة إلى سواحل واسعة على بحر العرب.
وبحسب تقرير سابق لمؤسسة "كارنيغي للسلام الدولي"، تنظر الرياض إلى حضرموت باعتبارها منفذاً مباشرا لها على بحر العرب، ما يسمح بتنوع طرق التجارة وطرق تصدير الطاقة وتقليل الاعتماد على مضيق هرمز.
وفي حال تمكنت السعودية من ترسيخ نفوذ قوي على ساحل حضرموت، فستحصل عمليا على منفذ ثالث على مسطحات مائية استراتيجية بعد الخليج العربي والبحر الأحمر.
أما الإمارات، فلها مصلحة سياسية وعسكرية في حضرموت، وفق خبراء ومحللين، إذ ستؤدي سيطرة المجلس الانتقالي على المحافظة الغنية بالنفط إلى تعزيز مشروعه الانفصالي ومنحه قوة اقتصادية وسياسية كبيرة.
كما تعمل أبوظبي منذ عام 2016 على بناء وجود عسكري واسع على طول الساحل الجنوبي لليمن المطل على بحر العرب وباب المندب، بما يشمل جزيرة سقطرى وميناء بلحاف، وتشكل حضرموت الحلقة الأهم في هذا النفوذ الساحلي الممتد باتجاه مضيق هرمز.
ويرى خبراء أن النفط اليمني ليس هدفا اقتصاديا مباشرا للرياض أو أبوظبي، إذ إن تكلفة الانخراط العسكري والسياسي في اليمن تفوق بكثير أي عوائد محتملة من النفط اليمني، لكن السيطرة على الحقول والمنشآت النفطية تبقى ورقة ضغط مهمة، تمكن الطرف المسيطر من تمويل قواته وتعزيز موقفه التفاوضي واكتساب شرعية باعتباره الطرف الذي "يدير الثروات".
مخاطر الصدام وانعكاساته الإقليمية
يحذر تقرير لمؤسسة كارنيغي من أن التنافس المتنامي بين السعودية والإمارات، عبر وكلائهما المحليين، يعرض استقرار حضرموت للخطر، وقد يؤدي إلى تفاقم الانقسامات الداخلية.
ويعتبر التقرير أن السيناريو الأسوأ يتمثل في اندلاع مواجهة عسكرية مباشرة بين قوات القبائل المدعومة سعوديا و"النخبة الحضرمية" المدعومة إماراتيا، بما سيدفع الحرب في اليمن إلى مرحلة جديدة بالكامل.
ويرجح التقرير أنه في حال اندلاع هذا النوع من المواجهة، قد تُدمَّر آخر مناطق الاستقرار النسبي في البلاد، ويُدفع الاقتصاد اليمني نحو انهيار أعمق، وتُفتح الساحة أمام عودة تنظيم القاعدة بقوة في المناطق التي قد تُترك فراغاً نتيجة انشغال القوى المتصارعة بمواجهة بعضها بعضا.
ويمتد تأثير الصراع في حضرموت إلى خارج اليمن أيضا، إذ يشكل عدم الاستقرار في هذه المحافظة تهديدا مباشرا لأمن البحر الأحمر وباب المندب، المدخل الجنوبي الذي تمر عبره نحو 10 بالمئة من تجارة العالم، وهو شريان حيوي لقناة السويس المصرية.
كما يفرض التنافس الإقليمي في جنوب الجزيرة العربية مواقف دبلوماسية حساسة على دول مثل مصر، بين حلفاء خليجيين تربطهم بها شراكات استراتيجية.
وفي المقابل، يرى محللون أن الحديث عن توتر حاد بين السعودية والإمارات قد يكون مبالغا فيه، مشيرين إلى وجود تنسيق مستمر بين البلدين على أعلى المستويات، وأن الخلافات في اليمن تتعلق بالتكتيكات لا بالاستراتيجيات، غير أن الوقائع على الأرض، ولا سيما استمرار دعم كل طرف لحلفائه المحليين في حضرموت والمهرة، تشير إلى مستوى تنافس أوسع مما تحاول بعض التقارير تقديمه بصورة مخففة.
المعركة الحاسمة تتجه نحو صنعاء
يكشف الخبير في شؤون الجماعات الإسلامية، محمد بن فيصل، في مقابلة صحفية، عن "تفاهم عسكري أمني" جرى ترتيبه لتسليم محافظة حضرموت، ولاحقا تسليم محافظة المهرة، للمجلس الانتقالي الجنوبي.
ويشير في تحليله إلى أن ما يجري لا يقتصر على حضرموت وحدها، بل يرتبط بتحضيرات لمعركة أكبر، مؤكدا أن دول الإقليم والنفوذ في اليمن "لن تسمح" للقوى المحسوبة على جماعة الإخوان المسلمين حزب الإصلاح بدخول العاصمة المحتلة صنعاء أو السيطرة عليها لاحقا.
اظهار أخبار متعلقة
ويضيف الخبير: "الاتجاه الفعلي للأحداث، والمعركة الحقيقية، يتجهان نحو صنعاء، لقد خدعوكم حين قالوا إنه صراع نفوذ".
ويؤكد أن حضرموت ليست سوى "ورقة" ضمن ملفات يجري ترتيبها، مشددا في الوقت ذاته على أن الوضع من وجهة نظره "ليس خطيرا"، وأن الأحداث ليست محتدمة، ويشير بن فيصل إلى أن الشيخ عمرو بن حبريش، فيما يبدو، أدى دوره ضمن هذا السياق وأسهم في التمهيد لخطوات يُراد لها أن تتحقق، وخلق مبرراً لدخول القوات.
حضرموت.. تحولات الإقليم وكلفة يدفعها اليمنيون
بدوره، يؤكد الباحث أحمد ناجي أن مستقبل حضرموت يبقى مرهونا بحزمة من العوامل، أبرزها مسار الأزمة اليمنية ككل، وإمكان التوصل إلى تسوية سياسية مع جماعة الحوثيين، إضافة إلى طبيعة ومستوى التفاهمات الممكنة بين السعودية والإمارات في المرحلة المقبلة.
وتظهر حضرموت اليوم باعتبارها أكثر من مجرد محافظة يمنية، فهي مرآة تعكس تحولات عميقة في تحالفات المنطقة، وساحة اختبار لنفوذ القوى الإقليمية، ومحطة محورية في سباق جيوسياسي طويل.
وبينما تظل الحرب الباردة بين الحوثيين والحكومة اليمنية جزءا من المشهد، تبقى "الحرب الباردة" الأخطر هي تلك الدائرة بين حلفاء الأمس حول تقاسم النفوذ في مرحلة ما بعد الحرب، في صراع يدفع اليمنيون ثمنه من دمهم واقتصادهم ومستقبلهم.